تتوالى الأيام والأحداث الصعبة التي يمر بها العراق دولة وشعباً، إلا أن هيفاء كانت صامدة تحارب في شقين، الأول كونها طالبة ماجستير، والثاني كأم لديها مسؤولية منزل وأطفال، لتكافح حتى تجني ثمار تعبها وتنال هذه الدرجة.
في نهاية عام 2018، حملت العراقية هيفاء عبد الغني عبد الله، أمنياتها للسنة الجديدة مستبشرة بها محسنة الظن بالله، خاصة حلمها الأكبر الذي كان يراودها منذ 6 سنوات وهو قبولها في الماجستير والحصول عليه بدرجة امتياز، ليبدأ عام 2019 بهذه المفاجأة السارة التي أثلجت صدرها هي وعائلتها بعد فترة من الإحباط واليأس والانتظار.
إلا أن الحياة لا تعطي كل شيء، فكان عام 2020 استثنائياً عليها مثلما حدث للجميع، بعدما تفشى فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، وأصاب وقتل الملايين في العالم، لتكون هي الأخرى من بين ضحاياه لترحل في سلام، وفي قلبها أمل معلق تحقق بعد وفاتها، فاليوم، ناقشت كلية طب الأسنان بجامعة الموصل، رسالة الماجستير الخاصة بالراحلة، البالغة من العمر 50 عاماً، والتي جاءت بعنوان “التشخيص المظهري والوراثي لأنواع المبيضات المعزولة من حالات التهاب الفم المصاحب لقاعدة الطخم”، في سابقة فريدة من نوعها بالجامعة، تكريماً من الأخيرة للطالبة النجيبة والشجاعة التي تُوفيت بسبب مضاعفات الوباء في أكتوبر الماضي.
وبكلمات من الأسى والحزن بدأت المناقشة داخل قاعة ملأها الحضور وغابت عنها صاحبتها، التي أنابت عنها الدكتورة إيمان عبد العزيز “المشرفة على الرسالة” للتحدث بدلاً عنها، وذلك بحضور رئيس الجامعة الدكتور قصي الأحمدي، ورئاسة الدكتور مزاحم ياسين العطار وعضوية كل من الدكتورة ندى فاضل عبد المجيد والدكتور عمار خالد جمال الدين النوري، لتنتهي الجلسة بمنحها درجة الماجستير الرمزية في فرع علوم طب الأسنان الأساسية.
هذه كانت الأمنية التي كانت تأمل أن تحققها هيفاء، مع أول خطوة في رحلتها الجامعية، حيث تخرجت في عام 1990 بكلية العلوم قسم الأحياء المجهرية جامعة الموصل، بتقدير امتياز وكانت من بين أوائل الطلبة، لتتعين باحثة في كلية الطب ومن ثم انتقلت إلى طب الأسنان، وتدرجت هناك حتى وصلت إلى منصب رئيس باحثين في قسم علوم طب الأسنان الأساسية، وهي مناصب لا تحتاج إلى تحضير الماجستير فوراً، فيمكن التعيين بشهادة البكالوريوس وفقاً لما قاله نجلها أحمد.
ولطموح هيفاء، ورغبتها في تطوير عملها والسعي للتدريس للطلبة، كانت خطوة الماجستير إلزامية، لتتقدم في عام 2013 إلى الكلية للحصول على الشهادة، إلا أن التوقيت كان صعباً خاصة مع استيلاء تنظيم “داعش” الإرهابي على مدينة الموصل، فلم يكن هناك مقعداً لها لبدء طريق رسالتها، ليُفتح الباب لها في عام 2019 عندما وافقت الجامعة أخيراً.
ومن هنا شرعت هيفاء في التحضير لرسالتها بكل اجتهاد وجهد، مع رعاية أولادها الخمسة “4 بنات وولد” وزوجها سبهان الذي كان داعماً لها في خطوتها، ووقف بجانبها خلال الرحلة الصعبة، فكانت تعمل لمدة أكثر من10 ساعات دون كلل مع الاهتمام بأطفالها وتعليمهم توفق بين حياتها الأسرية والعلمية، حسبما أكد نجلها الأكبر.
“أم مثالية وطالبة مجتهدة وباحثة عظيمة” هكذا وصفها ابنها أحمد الذي يدرس في كلية الآداب بالجامعة ذاتها، وحضر مناقشة اليوم، بمشاعر مختلطة بين فرح بـ نيل والدته الراحلة شهادة الماجستير، وحزن على عدم تواجدها وسعادتها بحلمها الذي لم تره وكافحت من أجله حتى آخر يوم في حياتها.
وعن إصابتها بفيروس كورونا، لم تعلم الأسرة ممن أصيبت أو كيف؟، نظراً لأن المدينة كان بها حالات كثيرة، لكن الأمر مر على الخير في الأيام الأولى من الإصابة، وتعافت بعد تلقي العلاج المطلوب، وسلمت الرسالة للكلية، لكن بعد عدة أيام تعرضت لجلطة مفاجئة بسبب مضاعفات الوباء، وكانت وقتها تكتب العرض التقديمي الذي كانت تريد أن تبدأ به مناقشتها، لتلفظ أنفاسها الأخيرة وهي في قلبها أمل ضائع.