عصب نيوز- سيد عبد الرازق:
صدر مؤخراً عن دار إبهار للنشر والتوزيع كتاباً يحمل عنوان “التنشئة الجندرية السليمة” لكاتبته الأردنية الأصل الإماراتية الإقامة: نور البسطامي، وهي حاصلة على درجة الماجستير في الإدارة التربوية من الجامعة الأردنية، وتعمل في ميدان الاستشارات التربوية، وتقييم جودة المؤسسات التعليمية، وصدرت نسخة أخرى من الكتاب عن ذات الدار مترجمة للغة الإنجليزية حملت عنوان “Creating a healthy gender identity” يتناول هذا الكتاب كما يتضح من غلافه الرئيس قضية الفرق بين جنـــ..(در/س) أي الجندر والجنس.
لم يدر في مخيلة العربي قديما بنطاق واسع – على حد معرفتي – فكرة الهوية الجندرية، صحيح أن الفكر العربي واجه أنماطا من الإشكاليات المتعلقة بتحديد الجنس على مستوى الفقه والتشريع والعلم أيضا، لكن ذلك كان يتمحور مثلا حول قضية جسمانية مثل حالة الخنثى، والذي اجتهدت المذاهب الفقهية في وضع تعريف له، وتبيان أنواعه، وظهر مع الطب المعاصر شروح حول حالته وأنواعه ودراسة الصبغة الوراثية له، واختلف الفقهاء في تحديد هويته، واتفقوا على وضع علامات له لتحديد كيفية تعامل الأحكام الفقهية معه، بدءا من علامات البلوغ وصولا إلى ظهور الشجاعة والفروسية ومصابرة العدو، وشرح ما يتعلق به من أحكام في الإمامة والصلاة وشهود الجماعة والزواج والميراث وغيرها، وبرزت قضية أخرى مثل حالة التوائم الملتصقة خاصة في مواضع النكاح وغيرها مما لا يتسع المجال للتوسع في تبيانه، كل هذا تعرض له الفكر العربي فيما يتعلق بتحديد جنس المولود، أو قضايا لا تتعلق بالصفة التشريحية للجسد مثل قضية المترجلات أو الغلاميات، وغيرها لكن هذا كان خاضعا لظرف تاريخي واجتماعي معين.
لم يكن هذا وحده ما أدخل فكرة مناقشة الجندر إلى البيوت العربية، ربما واكبت حركة النسوية خلال السبعينيات والثمانينيات وربما قبلها بقليل ظهور أفلام سينمائية ولقاءات إعلامية تناولت فكرة الجندر – حتى على سبيل الكوميديا حينها – مثل فيلم الآنسة حنفي 1954م، للرجال فقط عام 1964م، بنت اسمها محمود عام 1975م، السادة الرجال 1987م، وغيرها، إضافة لعشرات المرات التي تم فيها التركيز على النقيض في شخصية (صبيّ العالمة) والتركيز على طبائعه القريبة من النساء.
اليوم أصبح موضوع الجندر يشغل بشكل أو بآخر جزءا في التفكير العربي اليومي المعاش، بعد نشاط الحركات النسوية، وظهور قضايا مجتمع الميم (المثليون/ المثليات/ مزدوجو الجنس/ المتحولون جنسيا) درجة أنها احتلت حتى البرامج الرياضية في تغطيتها لمباريات كأس العالم لكرة القدم 2020 بقطر، وتبني بعض المشاهير لتلك القضايا، ومناقشاتها في برامج التوك شو.
إن الفارق بين الجنس (Sex) والجندر (Gender) لم يكن واضحا قبل سنوات قليلة، حتى إنه كان لهما نفس التعريف، أما الآن فمختلفان كليا، إذ يعبر الجنس عن الخصائص البيولوجية التي تفرق بين الذكر والأنثى حسب تعريف منظمة الصحة العالمية.
أما الجندر فمفهوم حديث ذُكر أن بداية ظهوره كانت في ثمانينيات القرن العشرين، وتم استخدامه في قاموس الحركة النسوية، حيث ظهر في أمريكا الشمالية ومن ثم في أوروبا الغربية عام 1988م، وقيل أيضا أنه برز للوجود منذ إعلان العام الدولي للمرأة 1975()، كما أنه ظهر في مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة عام 1994م.
وأصَّلوا لكلمة جندر من أصل اللاتيني (Genus) ومن لفظة (Gendre) الفرنسية القديمة، أما معناها فيدل على النمط، والمقولة، والصنف، والجنس، والنوع، والفصل بين الذكورة والأنوثة، بيد أن المرادف الحقيقي لكلمة (Gender) هو النوع الاجتماعي، أو الدور الاجتماعي.
ومهما كان الاختلاف حول المفهوم أو تاريخ ظهوره أو غيره إلا أنه لم يعد بالإمكان التغافل عن القضية واعتبارها أمرا بعيدا عن البيت العربي، ومثلت الآن قضية التنشئة الجندرية السليمة جانبا مهما من طرق التربية، هذا ما دعى الكاتبة نور البسطامي إلى تناول هذا الموضوع بشكل تربوي، دون التطرق إلى الطرح الديني أو العلمي المباشر، أو الإغراق في نقولات قد لا تفيد غير المتخصصين بها، فالكتاب كما تشير كاتبته هو: محاولة جادة وهادفة لدعم المراهقين والبالغين حول الجندرية.
تناول الكتاب مفهوم الجندرية، وبعض الحقائق المتعلقة بها، وتبيان العوامل التي تؤثر في تحديد الجندر، والتي منها العوامل البيولوجية، والمحيط المتمثل في العائلة ووسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية وألعاب الڨيديو والأشخاص المؤثرين مجتمعيا والمشاهير ودور اللغة في بناء الهوية الجندرية.
تناولت أيضا موضوعا هاما يتعلق بكيفية تعليم الأطفال عن الجندرية، ودور الكبار في ذلك، ثم قسمت هذه المراحل التعليمية بدءًا من الرضع وصولا لما فوق الثماني سنوات، كتبت أيضا عن دور الحضانة والمدرسة في بناء الجندرية السليمة، وحذرت من أثر التراخي في تعزيز تلك الجندرية السليمة والتي أدت إلى بروز مشاكل كثية مثل مشكلة الأمومة، وشكل الأسرة، ومجتمع الميم، وادعاء ملكية المرأة لجسدها.
خلصت في الفصل الأخير من الكتاب إلى الإجابة عن سؤال الخوف أو المواجهة، لتضع للقارئ العربي ما يشبه الدليل الأسري الذي يعاون ولي الأمر في حفاظه على الهوية الجندرية لأبنائه سليمة وواضحة، كما وضعت الكاتبة تدريبات ومناقشات يمكن من خلالها دعم قدرة الأطفال على التمييز بين الجنسين والتعرف على جندريتهم ببساطة ووعي، باستثمار بساطة لغوية لا تفتقر للعمق المعرفي أو تلجأ للتسطيح، بحيث يمكن لكافة أفراد العائلة العربية الاطلاع عليها والإفادة منها كدليل تربوي في مسألة الجندرية.