عصب نيوز- سيد عبد الرازق:
صدر مؤخراً عن دار “نقوش عربية” كتاب يضم بين جوانبه مزيجا مركبا بين الفن التشكيلي، وأحاديث الزمان والمكان، والشعر والخط والنحت، مستثمرا هذا المزيج مع المواد والخامات الحديثة لإنتاج معرض فني يصور حالة النضال الأنثوي الإنساني؛ مستلهما من التاريخ والواقع والخيال هوية هذا النضال وتأثيرية رموزه.
الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الموسيقى والنقاد والمنظرون والشعراء عملوا على أن تجد الفنون ذاتها في حياة الإنسان وفق تصوراتهم الفذة التي تلعب دور الرواي أحيانا لما يجيش في صدر العامة ولا يستطيعون صوغه في قوالبهم الخاصة؛ فيضطلع هؤلاء بتلك المهمة الفريدة، ولأن اللوحات داخل “نضال من ألوان” جمعت بين القضية والفلسفة والتاريخ والشعر والمجتمعات بكافة صنوفها عبر التصوير الأنثوي لكل ذلك ساهم بدوره في الإدراك الإنساني بقضايا المرأة.
الفن التشكيلي فن وجد مع وجود الإنسان منذ زمن (النيانتردال) أي منذ عصر رجل الكهف والعصر الحجري على حد تعبير محمد منيف، فقد شمل الكتاب امتدادا تاريخيا للنساء اللائي جسدن هذه الحالة الجمالية للنضال، ولم تتأطر هذه التاريخية التي اشتملت عليها اللوحات بإطار معين، وإن انحصرت في النساء المناضلات اللاتي استقتهن الفنانة سناء هيشري – ومن ثم طالباتها – من التاريخ الإنساني أو صغنهن من الخيال، وإنما امتدت جغرافيا وميدانيا.
بالطبع فالتقنيات والألوان والخامات عنصر رئيس في رسم اللوحات وتبرز مدى ثراء اللوحة، لكن العمق الثقافي لاختيار موضوعات اللوحات كان ملفتا للنظر وبشدة، فقد تناولت اللوحات أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية ضاربة في العمق، لتناقش اللوحات قضايا نضال كان لها بالغ التأثير في تاريخنا العربي مثل باحثة البادية والتي اتسمت لوحتها بتسليط طاقة أشعة ضوئية ذات ألوان مختلفة تعمل على تراسل ونقل هذه الحالة المقاومة إلى نفسية المتلقي، وتأتي بلقيس الملكة التاريخة مكللة بلون الشمس الباحث عن المعرفة والصادر عن قوة الفكر ورجاحة الذهن في الموقف العقدي والتاريخي الذي أثبته لها القرآن الكريم، وتتجسد الملكة صنهاجية ملكة تونس في العصر الزيري بقوها وصلابتها وحكمتها.
في لوحة “جارية ابن الفرات” وهي لوحة فيها ما فيها من جماليات الفن التشكيلي لكن التقاط البعد الثقافي هنا لهذه اللوحة كان جديرا بالاحتفاء؛ لقد انتبهت سناء هيشري إلى زاوية بعيدة يكاذ ذكرها في كتب التراث يكون هامشيا، ولا تتعدى الذكر في تراجم بعض الشخصيات التاريخية، وهنا دور الإبداع الذي يلتقط التفاصيل النادرة لإعادتها إلى المشهد وصناعة أبطال جدد للقصة وفق منظور رؤيوي مغاير، لقد ذكر التاريخ العربي عددا من النساء الخطاطات العربيات مثل فاطمة بنت إبراهيم بن محمود جوهر البعلبكي (ت: 711هـ)، وفاطمة بنت علم الدين البرزالي (ت:731ه)، وست الوزراء بنت محمد بن عبد الكريم (ت:736ه)، وهن كما يبدو من أسمائهن المرتبطة بعلماء وسياسيين كبار، كان يمكنها ببساطة أن تتناول إحدى تلك الشخصيات لكنها عمدت إلى الظل حيث تقبع “جارية ابن الفرات” التي كانت تراجع ما ينسخ ابن الفرات قاضي القيروان لتصل رسالته للناس دون خطأ لتعيدها إلى قلب المشهد في لوحتها، وللأمر دلالاته المتعددة، وفي لوحة أخرى ظهر الخط العربي مطرزا على شال فتاة عربية ليعطي ذات الدلالات الأمر الذي انعكس حتى على طالبات سناء هيشري ليتجسد في لوحات “أم الزين الجمالية” للفنانة أسماء المثلوثي، ولوحة “هي الأم/ الأخت/ الزوجة/ الصديقة/ هي الأنثى العربية المسلمة” للفنانة دليلة بن الحاج سالم، ولوحة “عائشة المنوبية” للفنانة سلمى الجلولي، ولوحة “هدى شعراوي” للفنانة يسرى بن يحي، ولوحة ” أصالة المرأة العربية” للفنانة دلندة دريرة والتي بدت فيها المرأة العربية مرتدية السفساري وهو لباس أندلسي انتقل إلى شمال أفريقيا، ومن المناضلات اللائي اكتنفهن الكتاب أيضا “المناضلة مبروكة بن قاسم” للفنانة عائشة خليف، و”الأميرة فاطة إسماعيل” للفنانة فاطمة الشعبوني، والمناضلة “فاطمة بن بكر” للفنانة إيمان علولو، و”المناضلة الوطنية آسيا غلاب” للفنانة أنس بن طالب.
صورة المرأة المفكرة والمناضلة والتي تحسب خطواتها جيدا قبل وثبتها المنتظرة تجلت في العديد من اللوحات وفق نسق تصاعدي نفسي تراتبي لتأتي “المرأة الحالمة بالحرية والتغيير” والتي تطيل التفكير والدراسة “بين المعلوم والمجهول”، وتظل تتخذ صورة “المرأة الصامتة” الـ”جريئة بحكمة”، ثم تثب بكل ما أوتيت من قوة في لوحة “شموخ” تلك التي تعقد موازنة بين المرأة والنمرة المفترسة التي تترقب لحظة وثبتها لتحصل على مبتغاها بكل قوة وجرأة، انعكس ذلك أيضا في إبداعات طالباتها اللاتي اعتمدن أيقونات مشابهة في التناول الثقافي والفني كما بدا جليا في لوحات “المرأة التونسية الحرة الأصيلة” للفنانة ألفة بنعودة الصيود، ولوحة “المرأة بين التقليدي والمعاصر” للفنانة هالة التليلي، ولوحة “نظرة المرأة العربية” للفنانة نادية بن عياد، و”حنين إلى الجذور” للفنانة منى تقية، و”المرأة العازفة” لبسمة بسباس، ولوحة “العشوية” للفنانة فاطمة شاكر والتي احتل فيها تجسيد الفن المعماري مكانه في اللوحة، و”جرأة وتحرر” للفنانة آمنة بن إبراهيم، و”المرأة العاملة” للفنانة كاميليا حشيشة.
لا أجدني إلا متفقا مع بيكاسو حين قال: “إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف، إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حرية التعبير”، من هنا يبدو إيمان الفنانة سناء هيشري بأن نضال المرأة جزء من حرية التعبير التي تقاتل من أجلها وتفتخر من خلالها بعروبتها وأصلها ولغتها العربي، لكنها لا تنسى القاسم المشترم الأعلى الإنساني فتصور المقاومة الأنثوية إنسانيا وعالميا فنرى “سندريلا” الأيقونة الخالدة في ذهن الكرة الأرضية حول التحمل والمثابرة، بتناول فني جديد يستشف عالم الروح الوثابة عبر ألوانه وتقنية رسمه.
فاجأني في هذا المضمار تساؤل ينم عن تفكير فذ وزاوية تناول مدهشة “ماذا لو أن تشي جيفارا كان أنثى؟” في لوحة “دائما حتى النصر”، وكأن المبدعة سناء هيشري تؤكد على أن قيم الانتماء والولاء والتضحية حاضرة متأصلة في المرأة، لا يدلل على ذلك التاريخ العربي بل والإنساني أيضا، وهو ما سعت لتأكيده عبر لوحات أخرى مثل “حسناء قرطاج” التي تسرد بألوانها موقف صوفونيسبا الأميرة القرطاجية التي أبت الهوان والذل والانقياد، ولوحة “عليسة التاريخية” مؤسسة قرطاج وملكتها الأولى، وامتد ذلك إلى لوحات طالبات سناء هيشري مثل لوحتي “الكاهنة – حسناء جنوة” للفناة سهيلة القطي، وغيرها.
أفريقيا أيضا كانت حاضرة وبقوة في هذا الكتاب الذي يمثل معرضا فنيا باذخا ممتلئا بالدهشة والتفرد، أفريقيا السمراء التي عانت طويلا تحت نير الاستعمار والاستبداد وما زالت تنتهب ثرواتها وتستلب إمكاناتها، وما زالت تصور حالة الأنثى السمراء المناضلة التي تسعى لاكتساب حقوقها كاملة رافضة الهيمنة ومدافعة عن تاريخها الإنساني الطويل، حضرت أفريقيا “بالألوان .. التاريخ الذي لم يرسم بعد”، ثم تتجلى حالة النضال الأنثوي الأفريقي في لوحة “الجمال هو ما يرسم الفنان وما يكتبه الشعراء” حين تستلهم المبدعة سناء هيشري من الشعر لتجسد أفريقيا، و”تكرم بالألوان المرأة الأفريقية” ليكون الفوشيا الفاقع والأصفر الكناري حاضرا في المشهد الأفريقي، بل يتطور هذا الموقف الإنساني إلى حد أبعد حين تبرهن على أن أندروميدا الأميرة الإثيوبية لم تكن تلك الفتاة التي قدمتها الشاشات الغربية وإنما هي الأميرة الإثيوبية الأفريقية السمراء التي تحمل وهج هذي الأرض وعبق تاريخها في لوحة “أندروميدا السوداء”؛ إيمانا منها بأن “سيدات أفريقيا هن ملكات تتربعن على عرش الألوان الحارة” على حد تعبير المبدعة.
قرر محمود درويش حقيقة أجدها تتجلى في “نضال من ألوان” حين قال: ” هزمتك يا موت الفنون جميعها… هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مِسلة المصري، مقبرة الفراعنةِ، النقوش على حجارة معبدي هزمتْك وانتصرتْ، وأفْلت من كمائنك الخلود” لقد هزمت لوحات هذا الكتاب موت المناضلات عبر تخليدهن لتصبح “المرأة زهرة الحياة” والتي شاع فيها اللون الأخضر تجسيدا لهذه الحياة، وتنقش “بصمة حواء”، وتكرر فعل الوجود عبر “حواء العربية”، وتمتد في “امرأة تخلد في التاريخ”، و”نادرة هي” تلك اللوحة التي مزجت فنون الرسم والنحت والمواد والخامات الحديثة.
لم يكن الشعر غائبا روحا ولونا في اللوحات، فإن المرأة التي تفتخر بعروبتها وأصلها ولغتها العربية ما انفكت تستحضر الشعر وتستلهم منه لوحات نضالها الأنثوية، كلمات الشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي “اخرج إلينا وتنفس من رئات الناس شعرا … لا تكن طفلا عنيدا … سنطمئن السمراء أنك لا تزال تحبها، ولسوف ترجع حاملا أوراقك الزرقاء ترفعها سماء” كانت هذه الكلمات وراء ولادة لوحة “الجمال… هو ما يرسمه الفنان وما يكتبه الشعراء”، كما استلهمت في استثمار فريد وذكي للغالية الألوان من قصيدة سفي الدين الحلي (بيض صنائعنا، خضر مرابعنا ** سود وقائعنا، حمر مواضينا) والتي هي انعكاس للعلم الإماراتي لتجسد لوحة “الوحدة العربية وشموخ امرأة” وهي المرأة التونسية الأصل، التي طافت البلاد العربية خاصة الإمارات العربية المتحدة وتتماس دبي تحديدا بخط حياتها تماسا كبيرا، وانعكست تلك الألوان المستوحاة شعرا من الموحدة العربية جغرافيا ومواقف ونضالا وفعالا على لوحتها الفذة، وأيضا في لوحة “سعودية القرن 2030” والتي تستشرف فيها مآلات النضال النسوى في المملكة، انسحبت هذه الحالة الشعرية جنبا إلى جنب مع الروح المناضلة على لوحة “حنين” التي اللوحة التي كانت نتاجا للقاء جمع مبدعتنا مع “حنين السورية” في بارك إيغمونت، والتي تعبر عن الكثيرات اللواتي اضطرتهن الحرب وويلاتها إلى الشتات والتهجير، إنهن في عيون سناء هيشري لست مجرد لاجئات أو نازحات وإنما هن مناضلات حملن الحضارة العربية والثقافة العربية إلى بروكسيل حتى تتحقق أحلامهن في دمشق التي بناها نزار قباني على طرازه الشعري في قصيدته المشهور ترصيع بالذهب على سيف دمشقي حين قال “ها هي الشام بعد فرقة دهر… أنهر سبعـة، وحـور عين”.
انطلاقا من وعي الفنانة سناء هيشري بأن التشكيل بالخط له فرادته لما له من خصائص تميزه عن خطوط اللغات الأخرى، فهو قابل للتشكيل كما أن حروفه قابلة ومطاوعة للمد والوصل والفصل والإطالة والاختزال، كما تتنوع كيفية رسم الحرف الواحد حسب موقعه من الكلمة ونوع الخط الذي كتب به وتبعا لذلك تتنوع جمالياته في الرسم، لذا كان الكاليجرافي وهو كتابة الحروف العربية المزخرفة وترتيبها بشكل جمالي فني حاضرا في اللوحات سواء اللوحات الخاصة بسناء هيشري أو بطالباتها؛ لأنها توقن أن المزج بين اللون والخط العربي يسهم في التعريف بتقنيات الحروف العربية وفنون الخط الأخرى، ما كونه يعطي أبعادا دلالية وجمالية على السواء.
لم تستأثر سناء هيشري ولوحاتها بـ “نضال من ألوان” وإنما تم تخصيص ثلثي الكتاب تقريبا لإبداعات مناضلات أخريات تجسد النضال في حياتهن قبل فنهن، فعلى الرغم من تعدد أطرهن الأكاديمية والاجتماعية التي قد تكون بعيدة عن الفن التشكيلي إلا أنهن تمردن وتجلت فيهن روح المقاومة في سبيل صناعة أنفسهن وصياغة واقعهن الجديد، لتكملن سبيل أستاذتهن التي فتحت لهن بابا لمشاركتها في معارضها الدولية ومدرستها الفنية لتضعن إبداعاتهن في المكان اللائق به، ضم الكتاب تسع عشرة مبدعة هن ألفة بن عودة الصيود، هالة التليلي، فاطمة الشعبوني، أسماء المثلوثي، دلندة دريرة، نادية بن عياد، منى تقية، عائشة خليف، فاطمة شاكر الخراط، دليلة بن الحاج سالم، آمنة بن إبراهيم، إيمان علولو، سلمى الجلولي، بسمة بسباس، ليلى منتصر القلعي، يسرى بن يحي، سهيلة القطي، أنس بن طالب، وكاميليا حشيشة.
وفي دلالة بالغة الرمزية إلى أن النجاح لا يتوقف عند المستويات الإبداعية وحدها بل يمكن للمرأة التميز أكاديميا واجتماعيا وتجاريا على السواء اختتم كتاب “نضال من ألوان” بلوحتين حيتين – إن جاز التعبير- في استعراض لسيرتين ذاتيتين لسيدتين من واقع الفنانة سناء هيشري وهما للسيدة صوفية الرقيق مؤسسة شركة للحلويات التقليدية، والسيدة هاجر الطرابلسي صاحبة شركة استشارات وهندسة لتكنولوجيا المعلومات، في إشارة إلى تضافر العوامل المتعددة من أجل خروج هذا العمل الإبداعي الفني إلى النور.
إن الطاقة التي تبثها سناء هيشري من استثمارها للألوان الحارة والترابية لتحمل في طياتها طاقة إيجابية تستحث المتلقي عبر مزجها مع النحت والخط العربي واستثمار أشكاله الهندسية المتداخلة والمستديرة والمتشابكة، إضافة لعامل “القضية” الذي يمثل الوازع الأهم في التجربة، وعمق التجربة الثقافية، كل ذلك يضعنا أمام كتاب جدير بالاقتناء والاحتفاء أضاف إلى المكتبة العربية الفنية.
وما يجدر ذكره أن سناء هيشري فنانة تشكيلية بلجيكية تونسية الأصل، وهي باحثة وأستاذة فنون جميلة، خريجة المعهد الملكي للفنون الجميلة ببروكسيل، وخريجة معهد Paul académique للعلاج بالفن، ولها مسيرة عقدين في مجال التدريس والفنون الجميلة في بروكسيل ودبي وتونس، أقامت العديد من المعارض الفنية في عدة دول عربية وأوروبية، كما أنها عضو لجان التقييم للمسابقات الفنية التشكيلية.