عصب نيوز- سيد عبد الرازق:
لم يكن الماء يوما بمنأى عن الشعر العربي، بل إنه لم يكن بمنأى عن الحياة ذاتها؛ فقد جعله الله منبعا للحياة “وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ”( الأنبياء، آية: 30)، وتسلل الماء باعتباره أصل الوجود (الاسطقس) إلى كافة أشكال الديانات القديمة على تعدد أساطيرها؛ فعلى حد تعبير خالد الخزعلي فإن أغلب الآلهة تتناسل وتنجب على أساس اسطقسي وعلى سبيل المثال: تنجب إلهة الماء السومرية الأم الأولى (نمّو) أربعة آلهة كبار هم (إنكي: إله الماء) و(إنليل: إله الهواء) و(ان: إله السماء الذي هو مصدر النور والنار) و(كي: إلهة الأرض والتراب) ، وهذا كله مما أكسب الماء قداسة عبر تاريخ البشرية سطرت منذ حروفه الأولى إلى اليوم، ذكر فاضل عبد الواحد في كتابه من ألواح سومر إلى التوراة من ذلك ما في قصة الإنسان المعذب الذي ابتلي من قبل الآلهة بالمرض إذ يقول “وفي بوابة الماء المقدس، نثر عليَّ الماء المقدس”، ولطالما طالعتنا قصائد الشعر العربي بقول الشاعر “سقى الله” استشرافا للماء وإحياء للطلول، يقول متمم بن نويرة (ت:30ه) (سَقَى اللهُ أَرْضًا حَلَّها قَبْرُ مَالِكٍ … ذِهَابَ الغَوَادِي المُدْجِنَاتِ فَأَمْرَعَا) والذِّهاب: جمع ذِهبة وهي المطرة الغزيرة، الغوادي: التي تغدو بالمطر، المدجنات: السحاب التي تأتي بالدجن، والدجن تغطية السماء بالسحاب، أمرع: أخصب وأتى بالخصب، وقول علي بن الجهم (ت:249ه) (سَقى اللَهُ لَيلاً ضَمَّنا بَعدَ فُرقَةٍ … وَأَدنى فُؤاداً مِن فُؤادٍ مُعَذَّبِ)، وقول ولادة بنت المستكفي (ت:484ه) (سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً… بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ) وقول صفي الدين الحلي (ت:752ه) (سَقى اللَهُ أَرضاً نورُ وَجهِكَ شَمسُها…وَحَيّا سَماءً أَنتَ في أُفقِها بَدرُ)، وغيرها.
كما كان الماء حاضرا، كان الظمأ حاضرا أيضا “وبضدها تتبين الأشياء”، فنجد في القرآن “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”(النور، آية: 39) ، والظمأ أشد العطش، ذكر ابن منظور (ت:711ه) في لسان العرب الظَّمَأُّ: العَطَشُ، وقيل: هو أَخَفُّه وأَيْسَرُه، وقال الزجاج (ت:311هـ) هو أَشدُّه، والظَّمْآن: العَطْشانُ وقد ظمِئَ فلان يَظْمَأُ ظَمَأ وظَماءً وظَماءة إِذا اشتدَّ عَطَشُه، وذكر نحو ذلك الفيروزآبادي (ت:816ه) بقوله الظمأ: العطش، أوأشد العطش، ولم تخل القصيدة العربية من ذكر الظمأ أيضا فهذا بشار بن برد يقول (ظَمِئتُ فَلَم أَظمَأ إِلى بَردِ مَشرَبٍ … وَلَكِن إِلى وَجهِ الحَبيبِ ظَميتُ)، ويقول البحتري (ت:280ه) (وَقَد كُنتُ أَظما إِلى وَصلِهِ … فَقَد صِرتُ أَظما إِلى صَدِّهِ)، وللشريف الرضي (ت:406ه) قوله (وَسيلَتي أَنَّهُ غَيثٌ وَلي ظَمَأٌ … وَإِن ظَمِئنا تَوَسَّلنا إِلى الدِيَمِ)، وصولا لإبراهيم ناجي الذي يكرر المفردة ثلاث مرات في شطر واحد حيث يقول (ظمأٌ على ظمأ على ظمأ … ومواردٌ كثرٌ ولم أردِ)، ليطالعنا مصطفى مطر بديوانه (ظمأ لا ينتهي) ليكمل سلسلة الشعراء الذين احتل الماء والظمأ في شعرهم مكانة دلالية جديرة بالدراسة والنظر.
مصطفى مطر هو حفيد يافا التاريخية وهي كما ذكرها ياقوت الحموي (ت:626هـ) في معاجم البلدان (مدينة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين بين قيسارية وعكّا)، ونزح أجداده إبان النكبة إلى غزة وهي أيضا مدينة ساحلية فلسطينية، في الطرف الجنوبي للساحل الشرقي من البحر المتوسط، ربما لهذا بدا الارتباط وثيقا بين مصطفى مطر بالماء الذي احتل جزءا حتى من اسمه.
استثمر الشاعر الظمأ في تمرير رسائل الديوان عبر وضع سير ذاتية لشعراء يرى الشاعر أنهم (رحلوا ظامئين) قبل أن يصلوا إلى الماء الذي قد يمثل هنا تحرر الوطن من ربقة الاحتلال، أو بلوغ أملهم المنشود من الشعر والحياة؛ فتطل صورة إبراهيم طوقان الذي رحل في سن السادسة والثلاثين، ثم عبد الرحيم محمود، ومحمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، ربما لذلك وضعهم الشاعر على رأس فصول ديوانه المرتبطة جميعها بالظمأ (ظمأ الإنسانية، ظمأ لأرض لا تزال، ظمأ لامرأة ما، ظمأ المسافة، ظمأ لعشق سرمدي)، ومن هنا كان جليا تعدد وظائف الماء في الديوان ما بين الاستعمال البيئي واليومي، وصولا إلى عمق الدلالات الرمزية التي تجسدت في القصائد لنجد الماء مركزيا في الديوان مرتبطا بكل قصائده ومتجليا في استخداماته العديدة، وعبر تمظهرات عدة.
– في صورة الدمع:
ربما احتل البكاء والدمع جل استخدامات الماء في الديوان، حتى إنه ليكاد يشبه الطلليات التي امتلأ بها تاريخ الشعر العربي، وهنا نلمح تلك العلاقة الموجعة بين المكان والزمان فالطلل الذي هو مكان ساكن جامد يعبر خلاله الزمن لتلتقي ثنائية الحركة والسكون وما يخلفانه من تمزق نفسي لدى الشاعر تكرر مذ (قفا نبك) وصولا لقول مصطفى مطر ( صرخت بالموت لي حلم وعائلة … سقى لها البيت دمعا حينما خسفا) ليعبر عن قضية الوطن الكبرى الذي ينهشه البلى والخراب، وتستمر الصورة (للفظة لم تجد مأوى سوى دمنا … جاءت تفصل للموتى بنا غرفا، وروَّجت كذبة الإنسان واغتسلت … بدمعتين على أرواحنا أسفا)، هذه الوحدة التي يفرضها الخراب والاغتراب والنأي عن الموطن والسكن والأهل، وهذا الرثاء للسلام تلك الكلمة التي ماتت ولم تجد مأوى يضمها سوى دماء أهل فلسطين المحتلة، إذ أقامت للموتى قبورا داخل كل منهم؛ ليتجلى الكذب البشري في التلاعب بالحقيقة وذرف الدموع الكاذبة أو العاجزة على السواء، ويتجلي الماء/ الدمع في الطلل (الزمان/المكان) في قوله (يمشي وللخطو وقع دامع وفم … الساعة الآن منفى والمكان هم،…، إلى بلاد أضأناها بأدمعنا … وتطفئ النور فينا حين نبتسم).
هذه الحالة البكائية للماء وطلليتها وخلو المكان والزمان من الأحباب مستمرة في قصائد الديوان، لتتجلى مكانية الماء لا في صورة المكون البيئي الذي كان يلجأ إليه الشعراء لبيان حنينهم إلى الموطن، كما فعل البحتري مثلا في قوله (وما تركي لمنبج واختياري … لرأس العين فعل من مريد، وما الخابور لي بدلا رضيا … من الساجور لو فكت قيودي)، ليبين أنه فعل المضطر الذي أرغمته الظروف على ترك ما يحب إلى ما تقتضيه الضرورة، ولكن مصطفى مطر يجعل الماء لا باعتباره مكونا بيئيا على الحقيقة مكانا لارتباطه بموطنه وإنما يجعل منه مجازا يربطه بذلك الموطن (قضت المسافة لا طريق فضلُّوا … وفمي هناك سحابة تبتل،…، فارأف بأمك يا رواية دمعها … والله توشك بالغياب تشل،…، ها قد أطل الموت ليت أحبتي … سمعوا توسل دمعتي فأطلوا)، هذا الشتات الذي يعانيه من قضت عليه المسافة بالاغتراب، والذين ما زال الوطن نشيدهم الأسمى الذي ما فتئوا يبللون شفاههم بذكره، وتناجيهم أمهاتهم/ أوطانهم ذاكرة ما خلفت قسوة غيابهم، وتوسلهن بالدمع لعل الغائب يعود، وتلك الشحنة النفسية الممتدة عبر كل مغترب قسرا وإن تنوعت الطلول وأسباب الاغتراب، لتحتل المناجاة مساحتها من خلال الماء المتجسد في النهر تارة، وفي الدمع تارة، وفي البرَد تارة أخرى ما زالت قائمة تنادي الغريبين (وأين من مد للدنيا عواطفه … نهرا لتعبر فاستغنت ولم ترد،…، وأين من أرسلوا للشمس ضحكتها … من دمعهم من شدوا لبيك يا بلدي، …، ومن يعيد لصبح الدار فرحته … ويغسل الرمل يوم العيد بالبرد)، والصورة الأخيرة المتعلق بالغسل ستتنامى عبر الديوان في توظيف الماء بكافة أشكاله فالدمع المطهر تلك القيمة الإنسانية البشرية القديمة تتوالى عبر كل نفس بشرية (واحمل صدى الدمع البريء وغسِّل الــ … دنيا به من حقدنا المتزايد).
من الزوايا التي التقطتها قصيدة مصطفى مطر عبر تمظهر الماء في الدمع ارتباطه بالبذر والنمو والعجين، فمن المعروف ارتباط نمو القمح بوجود الماء (ومن لحظة الضربة الأولى بذرت بكا … ئي السماوي حتى تورق الصفة، …، أمشي ومن قمح دمعي أعجن الغد للـ … ـجوعى طعاما لمن لم تؤوهم جهة) وفي موضع آخر يقول (يكثف في الأشعار قمح بكائه … ليأكله الشادون خبزا مرتلا) وأيضا (يا غربة تزرع الموتى على فمه … ليثمر الدمع في الأشعار قصته)، وفي موضع ثالث (لزيتونة من ضلوعي نمت من دموعي وقافية تهرب)؛ فارتبط الإثمار من الدمع بشعر مصطفى ارتباطا وثيقا كما هو واضح سلفا، وكأن الدموع التي تثمرها العيون تكرر القصة بدورها في إثمار القمح أو الزيتون أو الحروف مع ما تطلبه عملية ميلاد كل منهم من معاناة واختراق لطبقات متراكمة عبر تاريخ الحياة المثقل بالطمي والجرح.
– في صورة البئر:
تمتد القصائد إلى التاريخ العربي مستثمرة حوادثه وألفاظه في إسقاط على الواقع في مزاوجة بين أساليبهما وتقنياتهما في قصيدة حوار الريح والرصاصة التي قال عنها الشاعر إنها (مختالة في الريح تسعى إلى النحر) فتلك الرصاصة تعيد إلى الذاكرة صورة حرب البسوس (ترى لانسكاب الجرح بئرا وناقة … تريقان دمع الغيب في واقع مزرِ، ترى صرخة مكتومة فجرت مدى … يعيد بسوس الجهل فينا ويستشري) فالبئر الشاهد على الزمانين والمكانين الممثلين لحالة التشرذم والتقاتل مع اختلاف الوسائل؛ فبين المقاتلين الذين تحملهم الناقة بجانب الفرسان والراجلين والرصاصة التي تحملها الريح تنسكب الجروح وتفيض الدماء، والشعر العربي يطالعنا بمثل هذا في شهادة الآبار على حالات الهلاك والموت مع تعدد أسبابه وفي مثل هذا يقول حسان بن ثابت عن المشركين في بدر (يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا … قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ، أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقًّا … وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ) والقليب بئر ببدر، بل يحدثنا القرآن “وبئر معطلة” (الحج، الآية: 45) دلالة على هلاك وارديها، فهنا ترتبط البئر بالموت جزاء لظلم أهلها، وكذلك في بدر، وعند مصطفى مطر ترتبط بالفناء المرتبط بسفك الدماء والتناحر، وتعبر عن النهاية التي تغاير طبيعة الماء المتسمة بالتجدد مما يثير التساؤل (يقال إني انعكاس الماء كيف لنا … أن نشرب الوقت من بئر النهايات؟).
من صور الماء أيضا البئر الطهور التي ترفع الأدناس عن الواقع وهو استخدام معروف لماء زمزم تحديدا لذلك ارتبط معنى الطهر بماء بئر زمزم منذ حفرها على يد عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم إذ نُسبت أبيات إلى صفية بنت عبد المطلب (ت:20ه) تقول فيها (نحن حفرنا للحجيج زمزم … سقيا الخليل وابنه المكرم، هزمة جبريل التي لم تذمم … شفاء سقم وطعام مطعم)، وارتبطت من حينها بالطهر من الأمراض الظاهرة والباطنة؛ وهو ما ذكره أيضا ابن رشيد البغدادي (ت:662ه) في أبيات نسبت إليه (وصلى بأركان المقام حجيجنا … وفى زمزم مـاء طهـور وردنـاه)، ومصطفى مطر هنا يناجي ذلك الذي يتخذ منزلا في ضمير الرؤيا ولعله يقصد الشاعر ليعيد الطهر إلى ذلك الواقع فيصفه بالغائم في الحنين الذي يمطر بوحا ويناديه (أيها الزمزمي طهر خطانا … وأعرنا خطاك حتى نعودا) ويؤكد على حالة الطهر المرتجاة من البئر فيقول (أيها المريمي) نسبة للسيدة التي اصطفاها الله وطهرها، فكأنما نسب إليها الطهر ليلصق بها الشعراء كل قيمة جمالية تتعلق به، ويطرق ذات المعنى المرتبط بالطهر الزمزمي في قوله (سيبتل ريق الوقت ساعة قبلة … تزمزم جدب الطين من غيثه انهلوا) فزمزم هنا تروي ظمأ الطين الجديب في الوطن المقهور وتطهره من معاناة سبعين طعنة كانت فيها تدميه القذائف، لكنه حين تقبله الحرية ستطهره بزمزمها فيخصب من جديد.
– في صورة المطر:
تجلت مفردات الغيم والسحاب والمطر جميعا في ديوان ظمأ لا ينتهي، ربما في إشارة إلى انتظار الحل السماوي للمعاناة، وربما لارتسام الغيمة في صورة الطهر الذي يزيح غبار الأرض عن وجهها ويحمل رحمته للأراضي المتشققة جدبا والنفوس المتشققة شوقا، وربما لأن الظامئ لا يرنو فقط للسراب وإنما يرجو أن تهطل عليه السماء بغمامها، ولعل العاشق يرى فيها بياض وجه حبيبته أو كدرته أو اقتراب هطوله أو امتناعه وترفعه، أو لعلها صاحبة حجاب الكشف التي إن تتجلَّ يسفر وجه الحقيقة، وعلى هذا كله فوجود الماء في صورة المطر ضارب في القدم التعبيري للإنسان؛ فهذا امرؤ القيس يقول (دِيمَةٌ هَطْلاءُ فِيها وَطَفٌ … طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرْ) الديمة: المطر الدائم، والهطلاء: الغزيرة، الوطف: المسترخاة كهدب العين، طبق الأرض ملأها كالطبق، تحرى: تقصد المكان، وتدر: تملؤه ماءً، والقرآن الكريم أيضا ذكر المطر بأسمائه المطر والغيث والسقيا والماء، وذكر المزن والسحاب إلى غير ذلك من صنوف ضرب الآيات الكونية للتعقل والتدبر “وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا” (الفرقان، آية 48)، “اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ” (الروم: آية 48) وهنا تتجلى صورة الماء في المطر بمتلازماتها واستعمالاتها القرآنية المتعددة، خاصة في إرواء الظمأ والغوث في تلك الأراضي الصحراوية التي لا تعتمد مياه الأنهار، فارتبطت صورة المطر بالغوث وفي ذلك يمتدح البحتري قومه بقوله (وأنَّا ليوثٌ حينَ تَشْتجَرُ الَقنا … غيُوثٌ إذا ضَنَّ السَّحائبُ بالَقطْر) ومن الغوث جاء اسمها الغيث لأنها تغيث الأحياء، وهكذا امتد الماء في صورة المطر ومرادفاتها ولوازمها في القصيدة العربية كما امتدت في ديوان ظمأ لا ينتهي؛ وارتبط أداؤها الوظيفي بسابقاته التوظيفية في الشعر العربي أحيانا، يقول (وتراجعوا مقدار شوق غمامة … تبكي لتغسل بي جفاف رؤايا) فالغمامة تبكي لتغسل/ تروي جفاف الرؤى، ويقول (الان ألمحه بصورة غيمة … هطلت على المعنى فأبصر نفسه) فالمطر ينزل فيغسل وجه الأشياء لتبدو حقيقتها بعد أن تنزاح ركامات الأزمان والمواقف حتى لتعيد للمعنى قدرته على إعادة رؤية نفسه وتقييمها، والذي (يغسل الرمل يوم العيد بالبرد)، وقد يكون في صورة المنتظر البعيد (يشتكي للربيع زهر مسجى … فيشيح الغمام عنه صدودا)، والمرتبط هطوله بالبكاء الذي يعانيه الفاقد المحب (أيها الحب هل بأهلك مثلي … عاشق علم البكاء السحابا)، ثم يمضي بعيدا قليلا عن نمطية استعمالات المطر ليصنع انزياحا جديدا فيقول (صلى الهوى الدمعي أطلق قلبه … قلق الحروف على المجاز فأرجأه، وتعقبته فراشة التأويل ظامئة … تؤبجد لي السحاب فأقراه) فالسحب الكراسة البيضاء التي تؤبجدها فراشات التأويل وتعيد ترتيب حروفها بعد ما أصابها من قلق ليقرأ بعد طول تأمل في بياضها مجازاته، وارتبط الماء بوظيفة الشرح والبيان يصنع مثلا أعلى للشاعر يتبعه (الحب ترويض اللسان، وشرح معنى الماء إنجيل سأنشد مثله) فهذا الشرح لمعنى الماء سيعطي فرصة للشاعر لإنشاد إنجيله الشعري الخاص بمعناه، والدمع أيضا نال نصيبه في عملية الشرح والتعليم (صحِّ البلاد بدمع عاشق ودم … يعلمانك معنى الفجر يا قلم)، وتجسدت الغيمة في صورة المرأة/ القصيدة التي تفيض عذوبة وأنوثة وتدعو عاشقها لعناقها وتعلم حروف هجائها (الغيمة البكر تنديني أنوثتها … تغري الذراعين يدنو للعناق فتى، لقنته اللغة البيضاء تهجئة… تدفئ الخاطر المبتل كل شتا)، ويعطي للسحاب بعدا صوفيا حين يلصق به صفوة المولوية (يا جرحنا الصوفي والباكين من … ذرفوا السحاب المولوي لكسبه) في مناجاة الغريب لوطنه والبعيد لمطلبه الذي عز عليه والضعيف لسنده.
– في صورة البحر والنهر:
استثمر الشاعر تمظهر الماء في صورة البحر والنهر لكن بدرجة أقل وأندر من سابقاتها بل وفي توظيف عابر مطروق كانفلاق البحر في قوله (لشرعة الحب بي أصل ومعجزة .. وبحر شوق بأمرى طالما انفلقا) دون إضافة جديد يذكر لهذا التناص، وأيضا في تصوير صوت الرصاص الذي يفرض نفسه على واقع الشاعر مهما كان العمر صاخبا وممتلئا بالشواغل التي تشبه لجة البحر الصاخبة أمواجه (لأنك يا صماء – يعني الرصاصة – غدر وحسرة … ستسمعك الأمواج في لجة العمر)، وأنهار الخمر في قوله (بها سينزل نهرا للقصيدة منـ … ـه يشرب الخمر حتى تسكر اللغة)، واستعمال الشواطئ والنوارس (يمتد شاطئه غريبا كلما ارتعشت نوارسه يتمم همسه) والتعامل مع المرفأ والقارب (قوارب الحب لا تنسى موانئها .. فوجّه القلب شطر الحب حيث رسا)، وقوله (المرفأ المقصود ضيعه فأنـ… ـشأ بين أعينها الكحيلة مرفأه)، وهذا التمظهر في صورة البحر والنهر ولوازمهما من القوارب والشواطئ والمراسي كان في حاجة إلى تعميق انزياحاته ليكون في موقف متوازن مع التمظهرات الأخرى للماء داخل الديوان.
إن تجلي الماء في ديوان ظمأ لا ينتهي بصوره المتعددة صنع المركز الرئيس للمقابلة بين الظمأ باعتباره الباحث عن الرواء والماء باعتباره المنشود وجدانيا وفكريا وسياسيا، وقد تم رسم أبعاد رمزية وقيم دلالية تراوحت درجاتها وتوظيفاتها ضمن المشهد الشعري داخل الديوان، وهذه الدلالات ما زال يمكن استشرافها واكتشافها عبر دراسات تتناول هذا الديوان بالنظر والتمحيص لا قراءات انطباعية كالتي بين يديكم ركزت على عنصر واحد من عناصره، لعل الديوان يجود بما فيه وأن يترقرق ماؤه عذبا بين شفتي طالبه.