عصب نيوز- سيد عبد الرازق:
مذ وقف الشاعر الجاهلي على الطلل – ذلك الذي ضم في حضوره غيابه – وهو يمعن في الوقوف ليجمد اللحظة زمانا ومكانا، وصولا إلى الدقات الوليدة بين يدي كل شاعر وهو يستشعر جلال الغياب، فمنهم من يعيد سيرة الشعراء الأولى مستسلما للديار التي عفت، والحبيب الذي رحل، والحرف الذي عجز، موقنا بغيابه عن ذاته أو محبوبه، ومنهم من يرفض فكرة الغياب ليضفي على من غاب ديمومة الحضور؛ فيصبح غائبا عن الأبصار حاضرا في صور شتى، حتى لقد آمن بعض البشر بفكرة تناسخ الأرواح وهو حجر الزاوية في الديانة البراهمانية، والبوذية التي قالت بانتقال النفس من جسد لآخر لتصل إلى حالة النيرڨانا، فهذا التجلي والخفاء يمكن من الوصول للكمال وفهم الحقائق العلوية، وبذلك كان الغياب فاعلا حقيقيا بكل مكونات هذي الأرض حتى لقد امتد عبر الحنين إلى الحيوان والجماد، مفسرا لشواهدها الحاضرة.
لم تخل أيضا القصيدة العربية منذ نشأتها من وجود الغياب محفزا للكتابة وقد تتعدد نماذج ذلك الغياب ما بين غياب فيزيقي يتجسد في صورة الموت كرثائيات الخنساء(ت: 24 هـ) لأخويها صخر ومعاوية، ورثائية مالك بن الريب(ت: 57 هـ) مرورا بابن الرومي (ت: 283 هـ) ورثاء الأماكن والحضارات كرثائيات الأندلس وغيرها، وقد يكون الغياب اغترابا مكانيا وزمانيا، حين ينأى المحبوب – بكافة صوره – عن مدارات الشاعر مورثا إياه حنينا وشوقا يحرضان الشاعر على الكتابة ويعمقان إحساسه بالفقد.
من هنا كان التساؤل لماذا الغياب في ديوان (أنا غبت عني) للشاعرة أسيل سقلاوي؟ وكيف تجلت ملامحه عبر قصيدها؟ وما هي إمكانية وصف وتحليل تلك الملامح عبر أنساق الديوان المتباينة؟
لست هنا بصدد مناقشة ثنائيات الحضور والغياب القائمة على التشكيل والدلالة أو المبنى والمعنى تلك القضية المتأصلة في الشعر أو ما عبر عنه تودوروف بقوله ” علاقات الغياب هي علاقات المعنى والترميز، وعلاقات الحضور هي علاقات الشكلية أو البناء” والتي تعد بمثابة “بنية تقوم علىثنائية ضدية تنبع من التمايز بين عنصرين أساسين،وبهذه الصفة يكتسب النص طبيعة الجدلية لذا لابد منتوافر التضاد؛ ليتشكل النسق” كما أشارت إيمان السناني في دراستها للحضور والغياب في شعر البياتي.
بطبيعة الحال سأتماس مع تلك الثنائية لكن التناول سيعمد إلى الغياب باعتباره الركيزة الأساس للديوان، والغياب كما هو معروف نقيض الحضور وفي لسان العرب لابن منظور (ت: 711 هـ):” وَغَابَ عَنِّي الْأَمْرُ غَيْبًا، وَغِيَابًا وَغَيْبَةً وَغَيْبُوبَةً وَغُيُوبًا وَمَغَابًا وَمَغِيبًا، وَتَغَيَّبَ: بَطَنَ”، ولغة الغياب كما يقول كمال أبو ديب بتصرف “لغة شعرية … تمس المرئي عن بعد بلمسات رقيقة مواربة وتغيبه بطرق مختلفة بحيث يبدو أقرب إلى مرئي يكفنه الظل أو الضباب الناعم”.
أولا، غياب الحرف:
كثيرا ما تعرض الشعراء إلى حالات من غياب الحرف، ذلك الحبيب المفعم بالدلال، والمترفع عن المراودة، والراغب في التربص والقنص، والباحث عن قربان يقدمه الشعراء ليتجلى على يراعهم ولسانهم، ويمثل قوة عليا تملي على الشاعر سطوتها وفتوتها، حتى لقد امتلأ التاريخ العربي بعلاقات أسطورية بين تلك القوى وبين الحرف الشعري، ولا أدل من ذلك على قصص وادي عبقر وجان الشعر الذي دفع بعض الشعراء إلى نسب أشعارهم لتلك القوى الخافية فهذا الأعشى الكبير (ت: 7 هـ) يقول:
وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني … إِذا (مِسحَلٌ)سَدّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَينَنا مِن هَوادَةٍ … صَفِيّانِ جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعيا لِشَيءٍ أَقولُهُ … كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
ولقد استوقفني كثيرا لفظ “شاحردا” ذلك اللفظ الغريب الذي استعمله الأعشى في معرض حديثه عن جني الشعر (مسحل) الذي يلقي الشعر في روعه، لكأنما هو من قبيل إضفاء هالة غرائبية تمهد المتلقي لقبول بيان الأعشى حول شعره، وربما اسُتقي اللفظ من الفعل “شحر” أي فتح فاه ومنه الشُّحرور: الطائر الغريد، كأنما يريد الأعشى بقوله هذا نسب الشعر (الجميل الغريد) إلى الجن حيث لا يفتح فاه إلا إن أوحى إليه.
وأسيل سقلاوي وإن كانت لا تعزي غياب الحرف الشعري إلى توقف جني الشعر عن إلهامها كما زعم القدامى، إلا أنها تمارس طقوسها الخاصة في استمطاره واسترضائه، بل إنها تقر بما له من قوة تجعله بمنزلة صاحب الجبروت والسطوة الذي تقيم له قداسا في انتظار عودته من غيابه في صورته اليسوعية المخلصة أو في صورة وحي يتنزل في غاره حتى يمتزج بالذات الشاعة ويترنح في دمها.
هكذا ومنذ عناوين القصائد (سطوة، يسوع الحرف، قداس الصمت، غار الحرف، حرف ترنح في دمي، حدديث الصمت، وغيرها) وصولا لمضامين أبيات النصوص تجعل الشاعرة من غياب الحرف باعثا على الكتابة انطلاقا من أن الحرمان يفجر طاقة السعي للطلب مهما كان القربان في سبيله، تقول:
لك الأنفاسُ تبحرُ دونَ عقلٍ … لحوتِكَ صارَ قلبِي يونسيَّا
فليس ثمة مناص من كسر غياب الحرف حتى ببذل النفس، والتخلي عن العقلانية وإلقاء الذات الشاعرة بين فكي الحوت/ الحرف؛ والتضحية في سبيل ذلك تضحية يونسية بالنفس والعمر ومقاساة الصبر والانتظار كما أشارت في قصيدة حديث الصمت بقولها:
ببطنِ الحوتِ زاغَ الصَّبرُ عنِّي … ولكنْ لستُ عن عشقِي أضلُّ
كل ذلك حتى تسترضيه وهو المتمنع ذو السطوة الذي يرهق طلابه السادرين في سبله
صمتُ القوافِي شعلةُ الإيحاءِ … لا حرفَ يأتينا بغيرِ عناءِ
فغياب الحرف الشعري يعمق الشعر بافتقاده ويحفز الشاعر في اقتفائه وكتابته حتى يتنزل على قلب الشاعر.
إن انتظار عودة الحرف من غيابه انعكس في صورة هي الأسمى في العقل البشري وهي فكرة حياة الغائبين، لقد تجلت تلك الفكرة عبر التاريخ الإنساني بما لا يستطيع مناطحتها منكر، ولقد عقدت الشاعرة ذلك اللواء بيد الحرف الغائب المرتجى عودته بإضفاء قدسية على انتظاره فأسمته يسوعا:
يا بارئَ الكلماتِ هل مِن مريمٍ … تؤتَى يسوعَالحرفِ حتى نسجدَا
ونقيمَ هيكلَ بوحِنا بقصائدٍ …عذراءَ أُفرِدَ وحيُها فتفرَّدَا
فالشاعرة (مريم) التي تنتظر عودة الغائب (يسوع/ الحرف) حتى يتمكن حواريو الشعر من إقامة هياكل البوح على أعمدة قصائدهم المتفردة في طرزها، السامقة في بنيانها، العذراء في جدتها وبلاغتها، ليقموا احتفالا لعودة هذا الغائب الذي سيعيد تلوين قوس قزح بالأمنيات ويهدي السادرين إليه من جديد:
ويعيدُ لونَ الأمنياتِ لقوسِ قلـ … ـبٍ ضاعَ فيهِ الحُبُّ مِن ثَمَّ اهتدَى
لا تتوقف حالة القداسة على حضور الحرف بل إنها تحتفظ برونقها حتى في غيابه، بل ربما تكون أكثر تجذرا وتعمقا في نفس الشاعرة إذ تختلط بمشاعر الخشوع وألم الفقد، حيث يعجز اللسان وتنطق الروح كما ذكر ابن المقفع (ت: 142 هـ) بقوله “البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع” وربما كانت بلاغتها في الصمت أسمى من بلاغته في البوح :
سرائرُنا تبوحُ بألفِ صمتٍ … يشاطِرُهُ خيالٌ واجتراحُ
قداستُنا السكونُ فربَّ صمتٍ … تجلَّى في قداستِهِ ارتياحُ
فالصمت قد يكون غيابا للحرف المسموع لكنه لا يعبر عن غياب الحرف بالكلية فمن المحسوس ما يغني عن الملموس،وإن له لغة لتفيض بلاغة وإيجازا وقد تكون رسائل بين العاشقين، ومن ذلك قول أبي العلاء (ت: 449 هـ):
أوجَزَ الدَّهْرُ في المقال إلى أنْ … جعلَ الصَّمْتَ غايةَالإِيجاز
وقول المتنبي (ت: 354 هـ):
وَفي النَّفْسِ حَاجَات وَفِيكَ فَطَانَة … سُكُوتِي بَيَانٌعِنْدَها وخِطَابُ
ومع ذلك لا يغني الصمت عند الشاعرة بل إنه يكون محركا لتفتش عن الحرف ولا تستطيع الكتمان لكنها تحتال على ذلك بالبوح في هدأة الليل حيث لا أحد سواها، في سياج ليلي خاص ينأى بعيدا عن العيون الملاحقة والآذان الصاغية القادمة مع نشاط الصباح ويحفظ للحرف حرمه وقداسته:
تبوحُ حروفُنا لا تستباحُ … ويحسدُنا على اللَّيلِ الصَّباحُ
تأتي صورة غياب الحرف في هيئة الماء (الدمع، المطر)سجينة الغيم التي تستمطرها أسيل سقلاوي لتفضي بما عندها، وهي صورة تتكرر كثيرا لديها، وتعد امتدادا لموروث شعري كبير تحدث في طياته عن البوح بالدمع، ومن ذلك قول العباس بن الأحنف (ت: 192 هـ):
لا جزَى اللهُ دَمْعَ عينيَّ خيرًا … وجزى اللهُ كُلَّ خيرٍلِسانِي
نَمَّ دمعِي فليس يَكتمُ شيئاً … ووجدتُ اللسانَ ذاكِتمان
ففي غياب الحرف/ الماء (الدمع، المطر) تسعى الشاعرة إلى استنطاق عيونها عبر تحفيزه بالرؤى، وبيان حاجتها لإطفاء نار حشاها بالبوح، حتى تستطيع في النهاية دفع السحب دفعا لمخاض الحرف:
دمعي سجينُ الغيمِ يعصِرُ خمرَه … شبَّت عليه من الرؤى أشياءُ
ولكم سعتْ بغوايتي نارُ الحَشَا … عصفتْ بدمعِي واستُبيحَ الماءُ
عاقرتُ ضوءَ الحرفِ بين جوانحي .. فانسابَ من رحمِ القصيدِ بهاءُ
فالشاعرة تدرك تماما أن غياب الحرف سيظل يذكي نار الحشا برياح تهيج سحائب البوح حتى يسقط الدمع/ المطر/ الحرف، وهو إذ ذاك لن يتوقف عن الهطول؛ فقديمهيحفز جديده كما قال خالد بن يزيد البغدادي (ت: 269 هـ)
إذا ديمةٌ منهُ استقلت تهللتأوائل أخرى ما لهنَّ أواخرُ
بل إنها تحلم أن تمدها تلك السحائب بالحرف الغائب خلف ترفعها السماوي كي يشكل معنى خفيفا يساعدها على الفرار من واقعها تارة أو يجرئها على المواجهة وكسر مرايا الزيف تارة أخرى:
حلمي بأن تلقي السحابة في يديَّ … بخفة المعنى المهيأ للفرار
حلمي أقطر أدمعا منها المرا.(م). يا قد تصير معدة للانكسار
ثانيا، غياب المحبوب:
سبقت الإشارة إلى أن غياب المحبوب قد يكون غيابا ماديا حقيقيا بالموت، أو مجازيا بالبعد المكاني والزماني والاغتراب وما إلى ذلك من صنوف الغياب المتعلقة بالمحبوب، ومن هنا كان شعر الرثاء والصد والهجر وغيرها من مقولات الشعر التي يذخر بها ديوان العرب، وديوان “أنا غبت عني” يتشح عند ولوج هذا الباب من الغياب بالروح الرثائية المتجذرة في الحزن وكأنها تقيم لطمية تتفاعل معها روحا وجسدا.
من صور هذا الغياب المادي الفيزيقي قصائد كاملة احتشدت لبكاء أعلام الأمة من آل البيت، الأمر الجديد القديم عبر عصور الشعر العربي بدءا من استشهاد الإمام علي بن أبي طالب ثم الإمام الحسن فالإمام الحسين وكافة سادات آل النبي، ولحظة الاستشهاد/ الغياب المادي بما تحمله معها من عجز عن دفع حمامه، أو التصدي لوصفه، أو التعرض لهيبته.
يقول زكي مبارك في كتابه المدائح النبوية في الأدب العربي “الواقع أن دماء أهل البيت هزت قلوب المسلمين، ويكفي أن نتصور ما حدث به الفيروزآبادي في مادة (سور) من القاموس المحيط إذ قال (وسورين: نهر بالري وأهلها يتطيرون منه لأن السيف الذي قتل به يحيى بن زيد بن علي بن الحسين غسل فيه)، والتطير من نهر غسل فيه سيف قتل به رجل من أهل البيت يمثل أقصى معاني التصوف في حب أسباط الرسول”.
لقد تناول الشعراء قديما وحديثا قضايا التضحية والبذل والفداء والظلم الذي تعرض له سادات أهل البيت وما يمثل ذلك من قيم امتدت ظلالها إلى اللحظة الآنية، فالتعلق بآل البيت كُرست له حياة الكثيرين من الشعراء، من ذلك الكميت بن زيد الأسدي (ت: 126 هـ) صاحب الهاشميات،وقصائد دعبل الخزاعي (ت: 220 هـ)، وقصائد الشريف الرضي (ت: 406 هـ)، وقصائد مهيار الديلمي (ت: 428 هـ)، وغيرهم الكثير ممن لا يعد ولا يحصى من الشعراء الذي جعلوا من شعرهم منبرا للمنافحة عن آل البيت.
والغياب بالموت لا يعد دليلا على انقطاع الصلة مع الغائب ومناجاته بل يعد نقطة التقاء تعيد فتوة الفقد إلى واجهة المشهد الشعري كلما تجددت جراحها فهو كما ذكروا “ليس بعدم محض، ولا فناء صرف”، ولقد فطنت الشاعرة إلى ذلك في قصائدها التي تناولت ذلك الجانب؛ ففي قصيدة حين يعرج الدمع تقول:
يا كهفَ نفسيَ يا (السَّجَّاد) جئتُكَ منْ … مواطنِالجوعِ نخلًا فارقَ الرطبَا
يا غابةَ العشقِ أشعلتَ الحنينَ هوًى … في جانحيَّ فصارتْ نارُهُ أدبَا
فمفردات (الكهف، فارق، الحنين) كلها مواطن للغياب تعمق الشعور بالفقد، والإحساس بالفجيعة، وتعقد في موقع آخر موازاة بين غياب الإمام الحسين وغياب النبي يوسف فتقول:
ركبٌ على بابِ الخلودِ توقفَا … كم فيك صبرٌ كي تقولَ له كفَى
مَن يا (لثاراتِ الحسينِ) سيوفُنا … والمشتهى ما بانَ منه وما اختفى
كالصبحِ حين تنفَّسَتْ أوجاعُهُ … في بئرِها ما كانَ إلَّا يوسُفا
ليتلاقى غياب الحسين مع غياب يوسف، الأول غيبه الموت، والثاني غيبه الجب، والأول يبكي عليه العارفون بقدره، كما ابيضت عينا يعقوب على وليده، ولهما ديمومة الذكر (الخلود)، ومناجاة الصبر، في دلالة على أن الغياب مدعاة للجلاء.
في تناولها أيضا للسيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب تقول:
ما أسرعَ الموتَ في تجسيدِ غُربتِها … ما أغربَ المَوتَ قربانًا إذا وصفُوا
(ناجيتُ قبركِ) إدراكًا وكان لنا … في غربةِ الوجعِ المسكونِ مُنعَطفُ
ربما توفر للسيدة زينب مساحة من ملاقاة الغياب ما لم يتوفر لغيرها، مما جعل التماس معها في هذا الديوان ضروربا لتعميق أبعاد دلالاته حول الغياب، فالسيدة زينب الكبرى عاصرت وفاة جدّها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأمها السيدة فاطمة الزهراء، واستشهادأبيها الإمام علي بن أبي طالب، وكذا أخيها الإمام وأخيها الإمام الحسين بن علي وولديها عون ومحمد فيكربلاء، وحملت أسيرة من الكوفة إلى الشام مع رأس أخيها، لتتجلى صورة الغياب العظمي وتتشعب جذوره في النفس البشرية التي تحملت هذا العبء الذي تنوء به الجبال لتعبر عنه الشاعرة بحرارة يراعها ولهيب دموعها لنجد (الموت) مكرورا في القصيدة، والتضحية (القربان)، والمناجاة، والقبر، والغربة، والوجع، إلى غير ذلك من دلالات، وفي رثاء الحسين أيضا تقول:
لوَّحتُ منديلَ الغيابِ فإنْ أمت … جسدي معي وهناك كل حياتي
ويمتد هذا التأثر بالغياب إلى الرموز الدينية لتعقد أسيل بذكاء التقاطة توظف فيها الموروث مع الحاضر عبر استدعاء التورية والتاريخ في قصيدة عباءة من أثر موسى، تقول:
ما غيَّبوكَ هُمُ الذينَ تغيَّبوا … أخفوكَ موسَى فارتفعتَ كعيسى
وموسى هنا هو الإمام موسى الصدر الذي شوهد في ليبيا لآخر مرة عام 1978م، ثم لم يعثر له على أثر ولم يعرف له مصير، لتقيم الشاعرة هذا المعادل فتقول إنهم غيبوا موسى(الصدر) كما غُيب (موسى) النبي في تابوته ليخفوا أثره فخلد أثره كما خلد أثر عيسى (النبي) برفعه وغيابه، في تورية لفظية منقوشة بعناية.
لكنها مع كل ما ألم بها بسبب الغياب أبدا ترفض صورة الغياب المتجسدة في الانقطاع الصرف بل إنها تؤكد على كونه بوابة للخلود بكل عزم ووضوح فتقول في رثاء الإمام علي بن أبي طالب:
هو سرُّ من عبرُوا الفناءَ … وأورثوا أنسَ البقاء
وتقول في موضع آخر عن آل البيت:
عن أيِّ موتٍ جئتَ فيهم تسألُ … رحلوا، كأنْبرحيلِهم قد أقبلوا
كان الحصادُ دمَ الشهيدِ وكوكبًا … إنْ جنَّ ليلُظلامِهِ لا يأفلُ
لقد تناولت في هذه القراءة الانطباعية السريعة صورتين فقط من صور الغياب دانية القطوف في صفحات الديوان وهناك العديد من جوانب الغياب الأخرى التي تمثل غياب المحبوب/ العاشق/ الوطن/ الذات، واستدعاءات لصوره ومسبباته، وغيرها، مما يستدعي العودة إلى الديوان وبيان جوانبه بعد الغياب، لكن الغياب مفتتح للخلود والموت مبتدأ للحياة كما تقول أسيل:
إن كان بعضُ الحبِّ يُحيي موتَنا … أنا كم سأحيَا حينمَا سأموتُاي