لم تفهم أوروبا وأميركا أن تونس تعتزم تغيير وجهتها نحو محور آخر، فالرئيس قيس سعيّد يتجه شرقاً بخطى ثابتة. فبعد زيارته إلى روسيا والصين، قرّر إلغاء التأشيرة المسبقة مع إيران. وينتظر في هذا السياق أن تتطوّر العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية بوتيرة تصاعدية في الأشهر المقبلة في كل الاتجاهات. في المقابل، تتسع المسافة بينه وبين حلفاء تونس التقليديين، مثل الولايات المتحدة وفرنسا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. وكلما حاولت هذه الأطراف ممارسة ضغوطها عليه بالتنديد بأوضاع الحرّيات وحقوق الإنسان، وطالبت باستئناف المسار الديمقراطي، أصرّ على إهمال تلك الردود ودعوة سفراء هذه الدول أحيانا، وإشعارهم بأن تونس بلدٌ مستقل، ولا تقبل التدخّل في شؤونها، مثل ما فعل أخيراً بعد اقتحام مقر دار المحامين والحكم بالسجن على عدة صحافيين. وعندما وُجّهت الدعوة إليه للمشاركة في قمة الدول السبع رفض الذهاب، وفوّض رئيس الحكومة ليحضرها نيابة عنه.
هكذا أبحرت الباخرة التونسية في اتجاه موانئ جديدة من دون أن يقطع ربّانها علاقات تونس التقليدية. ورغم أن هذا التحوّل الاستراتيجي في بناء التحالفات يصعب التكهن بمداه ونتائجه، إلا أن مبرّراته قائمة وواضحة. ولا يعود هذا فقط إلى التغييرات الجارية في مواقف الرئيس قيس سعيّد وسياسته، وإنما يفسّر الأمر أيضا بنتيجة الزلزال الحاصل في أوروبا وأميركا. فما يجري هناك جاء ليخدم سياسات الرئاسة التونسية التي وظّفت ما يجري من أجل تعميق العداء للغربيين من جهة، وتهميش المعارضة الداخلية من جهة أخرى، والتي فقدت قدراتها وأوزانها بطريقة تراجيدية.
أسهمت حرب الإبادة التي تشنّها الدولة العبرية على غزّة بطريقة غير مباشرة في تعميق محنة الديمقراطية التونسية، فالدعم غير المحدود الذي قدّمته الإدارة الأميركية إلى حكومة نتنياهو أفقد هذه الإدارة أهلية مطالبة بقية الحكومات، ومنها تونس، باحترام حقوق الإنسان وقواعد اللعبة الديمقراطية، فالذي يسكت عن قتل الأطفال والنساء، ويشارك في تدمير مدن ومخيمات بسكانها، لن تكون له المصداقية الكافية للاحتجاج على من قيّد حرية التعبير وأقصى معارضيه من الحياة السياسية. هذا ما صرّح به قيس سعيّد وأيده في ذلك جزء واسع من التونسيين.
وبالنسبة لأوروبا، تعكس نتائج الانتخابات البرلمانية أخيراً بوضوح أزمة القيم التي تنخر القارّة العجوز، وتمهد لعودة الصراع التاريخي ضد “الآخر” وفي المقدّمة المهاجرون. فصعود أقصى اليمين دليلٌ على حدوث تراجع مسألة الحقوق في الفكر السياسي الأوروبي الراهن مقابل تنامي النعرات القومية الرافضة كل أنماط الانفتاح وبناء الجسور المشتركة. ويتقاطع هذا التحوّل في الأولويات مع مقولة السيادة التي تفرض عدم القبول بتدخّل أي طرف، مهما كانت حجّته في الشأن الوطني، بما في ذلك الحرّيات.
يُضاف إلى ذلك الضعف الذي أصاب الاتحاد الأوروبي ومؤسّساته، ما جعله غير قادر على حسم أي ملفٍّ له علاقة بنزاع إقليمي أو دولي. وهو ما حصل في الحرب الروسية الأوكرانية، التي تتّجه نحو خسارة أوكرانيا، رغم كل الدعم السياسي والعسكري الذي حصلت عليه من الغرب، فقد كان من نتائج تبعية الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة تراجع ميزانيات الدول وقلب موازين القوى الاجتماعية والسياسية، ما وفّر فرصة ذهبية لأحزاب أقصى اليمين، ومكّنها من كسب ود الفئات المتضرّرة من هذه السياسات.
في المقابل، مدّت الدول غير الديمقراطية أيديها إلى الدول الأفريقية، بالخصوص التي مرّت بتجارب فاشلة في مجال التعاون مع أوروبا، أو التي ضجرت حكوماتها من ربط التعاون الاقتصادي والمساعدات المالية بالديمقراطية وحقوق الإنسان. والتقت مصالح الطرفين، وبدأ ذلك يغذّي تنافسا بين القطبين.
وجدت تونس نفسها تنخرط في هذا الاستقطاب، وتميل نحو المعسكر الثاني. وتعتقد السلطة أن من شأن هذه السياسة أن تخفّف من تبعيتها لأوروبا وأميركا، وتفتح المجال أمامها للمناورة والاستفادة من هذا الصراع الدولي. لكن ما قد يجهله بعض المسؤولين أن التعامل مع القطب الجديد قد تكون له كلفة عالية.