إعادة ترتيب الأولويات على الساحة السورية تظهر بتغير الدور الروسي مرة أخرى، حيث أصبح يركز على علاقته مع سوريا بشكل مختلف عما كان سابقًا. بعد سنوات من التدخل المباشر لدعم النظام، تظهر موسكو اليوم كطرف شريك لسوريا الجديدة، وليس كوصيّ عليها. تعتمد علاقاتها على مبدأ الدعم مقابل الشراكة، وليس الحماية مقابل التبعية. زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو، وهي الأولى منذ تولي دمشق إدارة جديدة، تعتبر محطة مهمة في تطور العلاقات الثنائية، بينما أبدى الوزير الروسي سيرغي لافروف رغبة موسكو في مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة الروسية-العربية المرتقبة في أكتوبر. حمل الشيباني إلى الكرملين رسائل واضحة تؤكد رغبة سوريا في بداية جديدة تقوم على الاحترام والتعاون، مبتعدة عن العلاقات غير المتوازنة سابقًا.
تقييم العلاقات وإعادة صياغتها
أكد الشيباني أن بلاده تعمل على مراجعة شاملة للاتفاقات السابقة مع موسكو، سواء في المجال العسكري أو الاقتصادي أو الأمني، بهدف صياغة مستقبل العلاقات بما يخدم مصالح الشعب وليس ضمانات النظام. جاءت الزيارة بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، في خطوة تعكس تسارعا في الملفات العسكرية، خاصة ملف القواعد الروسية في سوريا، التي كانت موضوع انتقاد من مراقبين بسبب غموض المهام والزمن. وأوضح المحلل السياسي عباس شريفة أن العلاقة بين دمشق وموسكو تتغير من منطق الحماية إلى الشراكة، لافتًا إلى أن روسيا لم تعد تدعم بقاء النظام فقط، بل تسعى لمصالح مشتركة وتؤيد وحدة الأراضي السورية، مع التحذير من استمرار بعض فلول النظام السابق في العبث بالمشهد.
تمثيل الأقليات والمشاركة السياسية
مندوبو موسكو أبرزوا قضية تمثيل الأكراد ومسألة المشاركة في الحكومة، حيث دعا لافروف إلى تمثيل الكرد ضمن مؤسسات الدولة، بينما تميزت دمشق بتأكيدها على أن التمثيل يجب أن يكون على أساس الكفاءة، وليس على الكوتا الطائفية أو القومية، رافضة المحاصصة الطائفية التي فشلت سابقًا في تحقيق الاستقرار. وفي خطوة مهمة، نُقل عن مسؤولين سوريين لقاءهم بقيادات قوات سوريا الديمقراطية، وطرحوا خلالها ضرورة احترام سيادة الدولة السورية، والابتعاد عن مشروع الفدرالية أو تشكيل قوات موازية للجيش الوطني.
القواعد الروسية ومستقبلها
تعتبر مسألة القواعد الروسية أحد أكثر ملفات التعاون الحساسية، إذ أشار شريفة إلى أن الاتفاقات السابقة تتيح لروسيا وجودًا بدون سقف زمني ودون وضوح المهام، حيث تحولت هذه القواعد إلى جزء من الأراضي الروسية، مما يثير تساؤلات عن استخدامها في دعم حلفاء سوريا أو الضغط على خصومها. طالب سياسيون بضرورة إعادة صياغة هذه الاتفاقات لمراعاة المصالح الوطنية السورية، وربطها مقابل تقديم تسليح أو تدريب للجيش السوري بدلاً من أن تبقى مجرد امتيازات غير واضحة.
الوحدة والجغرافيا والاستقرار السياسي
كشفت مصادر سورية عن استعدادات لتشكيل حكومة موسعة تمثل مختلف الطوائف، إلا أن شريفة أوصى بالتروي قبل التقدم بهذا المسار، مؤكدًا أن الوحدة الجغرافية السورية يجب أن تسبق أي توسعة سياسية، موضحًا أن وجود إدارة ذاتية في الشمال وخلايا فوضوية في الجنوب يعرقلان أي شراكة فعلية. من ناحية أخرى، رأى أن إسرائيل تستغل أوضاع الجنوب لخلق واقع أمني إسرائيلي، داعيًا للعودة إلى اتفاقية فصل القوات عام 1974، وربما إشراك قوات أميركية كمراقب لضمان استقرار المنطقة، مع استمرار رفض سوريا لخضوعها لاتفاقات إذعان.
السياسة الخارجية والتغير في المواقف
أكد شريفة أن الرئيس الشرع يحظى بانفتاح إقليمي ودولي غير مسبوق، وأن هناك رغبة عربية وغربية في إحياء الاستقرار، مرجحًا أن يزور واشنطن في سبتمبر، وهو مؤشر على نهاية عُقدة الأسد وبداية عهد يركز على المصالح بدلاً من الأوهام الأيديولوجية. أشار إلى أن سوريا اليوم تعيد تموضعها، وروسيا تتبنى أيضًا سياسة مختلفة تتجه نحو التعاون المأمول من كلا الطرفين.
علاقة سورية-روسيا في المرحلة الجديدة
يسود اليوم مفهوم أن العلاقة بين دمشق وموسكو تتسم بحذر وإعادة تموضع، حيث تتطلع دمشق إلى تحالف يضمن السيادة ويحقق مصالحها، بينما تركز موسكو على الحفاظ على نفوذها دون تحميل نظام فاقد للشرعية عبء الوصاية. تتساءل الأوساط المعنية عن مدى احترام روسيا لاستقلال القرار السوري، وهل ستتمكن سوريا من فرض أجندتها الوطنية دون أن تعيد فتح أبواب التبعية أو الوصاية من جديد. يبقى المستقبل مرهونًا بما ستسفر عنه زيارة الشيباني من نتائج، وما سيتم إنجازه قبل قمة موسكو المرتقبة.







