تشهد العاصمة طرابلس توتراً غير مسبوق يعيد إلى الأذهان مشاهد الاقتتال الأهلي التي عاشت المدينة منذ سقوط نظام القذافي عام 2011.
تحولت شوارع العاصمة إلى ثكنة عسكرية مع انتشار أرتال مسلحة وتحركات آليات عسكرية، وسط دوي إطلاق نار متقطع في أحياء محددة.
يكشف التصعيد عن عمق الأزمة السياسية والعسكرية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات وتضع مستقبل العملية السياسية على المحك في ظل تنازع شرعيات متوازية وغياب مؤسسات أمنية موحدة.
خلفيات الأزمة
تصاعدت الخلفيات مع توتر بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة وجهاز الردع، القوة الأمنية الكبرى في طرابلس. أطلقت الحكومة في مايو مشروع استعادة سلطات الدولة لإخضاع التشكيلات المسلحة للسلطة المركزية، لكن جهاز الردع رفض الخضوع فاقم التوتر وأشعل الأزمة من جديد.
يرفض جهاز الردع الخضوع، وهو ما زاد الاحتقان وأعاد المشهد العسكري إلى قلب المدينة، خاصة مع سيطرة الجهاز على مطار معيتيقة والميناء وسجن معيتيقة، ما يجعل أي صراع داخل العاصمة أكثر حساسية وتعقيداً.
مواقف الحكومة والتحذيرات الأممية
تتحرك حكومة الدبيبة وتحذر من تداعيات الانزلاق نحو مواجهة مسلحة وتؤكد أن السلم الأهلي على المحك وتدعو إلى الحوار السياسي كخيار وحيد لتجاوز الخلافات.
تؤكد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أن أي تصعيد سيكون كارثياً ليس فقط على طرابلس بل على كامل البلاد، وتؤكد أن الحرب لن تكون لها رابح وأن المدنيين سيكونون أول الضحايا.
القلق الشعبي.. عصيان يلوح في الأفق
أمهل أهالي طرابلس الكبرى الحكومة 24 ساعة لسحب قواتها من الأحياء المدنية، مهددين بعصيان شامل وربما حراك شعبي مسلح إذا استمرت التحركات داخل الأحياء المكتظة.
خطر الانفجار وغياب الحلول التوافقية
يرى المحلل السياسي محمد محفوظ أن العاصمة تعيش حالة استنفار غير مسبوقة منذ مقتل آمر جهاز دعم الاستقرار، وتبعات المواجهات بين جهاز الردع وقوات الحكومة تعمّق الشك في الاستقرار. يضيف بأن الملفات العالقة مثل تسليم المطار لوزارة المواصلات وإدارة السجناء لم تجد طريقها للتنفيذ، وهو ما يعزز فقدان الثقة وتوتر العلاقات.
تشير المعطيات إلى أن قاعدة معيتيقة الجوية مركز استراتيجي يضم مستشفى عسكرياً ومطاراً مدنياً وسجناً ومقاراً حساسة، ولها بعد دولي كونها مركز وجود تركي في طرابلس، مما يجعل أي صراع مع الجهاز معقداً بشكل أكبر.
الدور التركي والمجتمع الدولي
يرى المحللون أن تركيا لعبت دوراً بارزاً في منع الحكومة من مهاجمة جهاز الردع عبر استخدام الطائرات المسيرة، وهو ما يعكس رغبة أنقرة في حماية نفوذها في العاصمة.
تظهر رغبة دولية في تقليص نفوذ التشكيلات المسلحة في القرار الليبي، لكن الواقع الميداني ومصالح متداخلة تعرقل التنفيذ، وأي عمل عسكري واسع قد يفضي إلى سقوط حكومي وتقلص قدرة المجتمع الدولي على التدخل بشكل حاسم في طرابلس.
أزمة شرعية وخيارات محدودة
يرى السنوسي إسماعيل أن خطأ الدبيبة الأكبر هو اعتماده على الميليشيات منذ فشل الانتخابات في 2021 ورفضه تسليم السلطة للحكومة التي عينها البرلمان، وهذا أضعف شرعيته ونال قبولاً محدوداً.
يؤكد أن الحكومة الحالية منتهية الولاية، وأن قراراتها تفتقر إلى الشرعية، ما يجعل أي تحرك عسكري منها فاقداً للمصداقية. كما يحذر من أن إشعال حرب في طرابلس سيكون مخاطرة كبيرة تهدد حياة نحو ثلاثة ملايين نسمة يعتمدون على المدينة اقتصادياً وخدماتياً، وأن استخدام قوات من مصراتة لاقتحام مناطق كبرى كالسوق الجمعة سيكون قراراً كارثياً يثير المعارضة حتى داخل مصراتة.
الأبعاد الأيديولوجية والسيناريوهات المحتملة
يطرح بعض المراقبين فرضية أن يتحول الصراع إلى مواجهة أيديولوجية بين تيارات سلفية مدعومة من جهاز الردع وأطراف أخرى، لكن محفوظ يستبعد هذا السيناريو قائلاً إن غالبية التيارات الإسلامية تفتقر إلى أذرع عسكرية فاعلة. وبالتالي ستبقى المواجهة أقرب إلى محدودة جغرافياً لكنها ستنخل آثارها بقسوة على المدنيين.
يرى إسماعيل أن المشكلة أعمق من الإيديولوجيا، فغياب دولة قادرة على بناء جيش وشرطة موحدين واعتماد الحكومات على الميليشيات هو جوهر الأزمة. الأولوية أن يتم إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية على أسس وطنية بعيداً عن صفقات مع التشكيلات المسلحة.
البعد الدولي
تبدي الجهات الدولية رغبة في التهدئة وتشكيل حكومة توافقية جديدة، وتضغط نحو معالجة ملف الميليشيات تدريجياً عبر حوار مع القوى العسكرية والسياسية في الشرق والغرب بدل اللجوء إلى مواجهة قد تعطل العاصمة وتدمر مؤسساتها.
التداعيات الإنسانية والاقتصادية
تبقى المخاوف الأكبر على المدنيين، فطرابلس التي يقطنها نحو 2.5 مليون نسمة تستقبل يومياً نحو نصف مليون من ضواحيها، وأي حرب ستؤدي إلى شلل كامل في الحياة الاقتصادية والإدارية وتوقف المطار والميناء والمستشفيات، ما يعرض السكان لكارثة إنسانية واقتصادية كبيرة.
المشهد الليبي يعود اليوم إلى المربع الأصعب، فالعاصمة تحت تهديد السلاح والحكومة منقسمة والمؤسسات معطلة والمجتمع الدولي يلوّح بالتحذيرات دون أدوات ضغط حاسمة.







