أصيلة – حسام لبش
في سياق سلسلة من الندوات التي أراد لها مؤسس منتدى أصيلة الراحل محمد بن عيسى، أن تكون لحظات تأمل وتفكير في الاشتغال الفني في العالم العربي والعالم، جاءت ندوة “الفن وسلطة التقنية”، التي تواصلت على مدى يومين، في جلستين، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال 46، في دورته الخريفية، لتستعرض تطور العلاقة بين الفن والتقنية، من زاوية “السلطة” التي تمارسها التقنية على الفن، مع التركيز على تأثير مستجد التكنولوجيات الحديثة على علاقة الفنان بفنه، خصوصا في ظل المستجد المتعلق بالذكاء الاصطناعي.
وخلص المشاركون إلى أن التقنية لم تُضِف بعدًا جماليًا جديدًا فحسب، بل أسهمت أيضًا في بلورة وعي فني معاصر يُجسّد التحوّلات الثقافية والتكنولوجية لمجتمعاتنا الراهنة؛ وشددوا على أن التداخل بين الفن والتقنية يثير في الآن ذاته تساؤلات عميقة، من قبيل: هل ما زال بإمكان الفن أن يحافظ على جوهره الإنساني في زمنٍ تهيمن فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟ وهل ستكون التقنية خادمة للإبداع أم بديلًا عنه؟
لحظات فارقة
وقال الناقد المغربي وأستاذ التعليم العالي شرف الدين ماجدولين، منسق الندوة، في كلمة تقديمية للندوة ، إن سؤال “الفن وسلطة التقنية” انبعث من أن التقنية باتت لا تشكل فقط قاعدة لكل اجتهاد إنساني اليوم، بل سلطة، وأننا حين نقول إنها باتت كذلك، فلأنها توجه التعبيرات وتهيمن على اختيارات الفنانين، وما يبذلونه من جهود في الإنجاز والتعبير.
وأشار ماجدولين إلى أننا حين نقول “التقنية”، ينصرف ذهننا إلى أنها منتجة للوسائط وللأجهزة، أي أنها تنتج تلك المسافة التي فيها بُعد الأداة وبُعد الإنتاج. وأضاف أنه يمكننا أن نعتبر أن تاريخ الفن هو تاريخ للاجتهاد التقني الذي بذله الذهن البشري في حقل الفن، ما يعني أن تاريخ الفن هو تاريخ تقنيات التعبير الفني.
فضاء إبداعي
وقال حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، إن التقنية أصبحت في زمننا الراهن مكوّنًا أساسيًا من مكوّنات الممارسة الفنية، إذ لم تعد تقتصر على كونها أداة مساعدة أو وسيطًا آليًا فحسب، بل تحوّلت إلى فضاء إبداعي مستقل يُعيد تعريف مفاهيم الفن والجمال والتجربة الجمالية ذاتها. ولاحظ أن الفنان المعاصر صارت له إمكانات غير مسبوقة في التعبير والتجريب، مع تطوّر الوسائط الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والتصوير ثلاثي الأبعاد، والواقع الافتراضي. ومن غير الخافي، يشير البطيوي، أن التقنية باتت تسهم في توسيع وسائط التعبير الفني، حيث تجاوز الفن حدوده التقليدية المألوفة، المحصورة في الرسم والتصوير والنحت والتنصيبات، ليتجسّد في أشكال جديدة مثل الفن الرقمي، وفن الفيديو، والفن التفاعلي، والتركيبات السمعية – البصرية، والفن القائم على البيانات؛ ورأى هذه الأشكال سمحت للفنان بترجمة أفكار معقدة بأساليب مبتكرة، كما مكّنت الجمهور من خوض تجارب حسّية مثيرة والمشاركة بفاعلية في العملية الإبداعية.
تاريخ الفن والتقنية
قدم علي سعيد حجازي، الفنان التشكيلي والباحث الأكاديمي ورئيس الإدارة المركزية لمراكز الفنون بوزارة الثقافة المصرية، سردا مفصلا لعلاقة الفن بالتكنولوجيا منذ العصور القديمة، وصولا إلى عصر الذكاء الاصطناعي. وقال إن العملية الإبداعية ليست شيئا غامضا أو غير خاضع للبحث العلمي، كما أنها ليست عملية واحدة منعزلة، بل هي مزيج من العمليات السيكولوجية المختلفة.
ورأى أنه لا بد للإبداع من ممارسة وجهد كبيرين في تدريب اليدين والعينين على اكتساب المهارات التقنية، لكي يصير المبدع قادرا على تشكيل أفكاره وتحقيقها وإيصالها للمتلقي.
وشدد على أنه قد يكون من الخطأ أن نرجع هذه القدرة الإبداعية إلى الموهبة الفطرية وحدها، ففي الفن لا يكون المبدع الأصيل مجرد إنسان موهوب فحسب، ولكنه إنسان نضج في تنظيم مجموعة من النشاطات واستخدام المواهب والوسائط من أجل الوصول إلى غاية محددة، ثم لا يكون فنه محصلة لهذه النشاطات.
التقنية والمبدع
وقدمت شو سين شين، الفنانة الفرنسية من أصول تايوانية والأستاذة بجامعة باريس 8، عرضا تركيبيا، انطلاقا من البحث في تكنولوجيا الفن، الذي هو مجال اختصاصها؛ لذلك تحدثت على توظيف الذكاء الاصطناعي في ميدان الفنون، من خلال حديثها عن التقنية كحاضنة خيالية فنية.
وسعت شين من خلال مداخلتها إلى إبراز دور التقنية في حياة الإنسان، وبالتالي المبدع، مع توقفها عند الثورة التكنولوجية ومدى تأثيرها كوسيلة للتعبير الفني.
جماليات التقنية
وقدم يوسف مريمي، الأكاديمي والباحث المغربي في الجماليات بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، عرضا تحدث فيه عن جماليات التقنية، مشيرا، في مستهل مداخلته، إلى أن ربط السلطة بالتقنية يفصح عن وعي بالتحولات الكبيرة التي تفرضها التقنية على الفن.
وتطرق مريمي إلى وجهات الباحثين في الموضوع، وكيف رأى بعضهم أن انتصار عالم التقنية معناه خسارة عالم الحرية؛ إذ أن الفنان حين يطوق بسياج التقنيات يصير فريسة لسلطها، التي منها اليوم السوق الاقتصادي، والإشهار، والموضة، وغيرها. وتبعا، لكل هذا أمسى الذوق نفسه منتجا موجها ومأسورا داخل دائرة الاحتكار والمركزية المعلوماتية.
دلالات متنوعة
وقال محمد نور الدين أفاية، المفكر، وعضو أكاديمية المملكة المغربية، في تقديمه للجلسة الثانية، إن للتقنية دلالات متنوعة، وأننا نلجأ، في كثير من الأحيان، إلى اختزالها في مسألة الآلات المفترضة أو التي يمكن إدماجها في عملية تحويل المواد الفنية إلى منجز جمالي، لكننا ننسى أن التقنية مكونة للفعل الإبداعي نفسه، فضلا عن هذا الذي نسميه بالآلات والآليات التكنولوجية، منذ بداية الكتابة إلى ما نشهده اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي.
مرايا الفن
وتحدثت بربارة ساتر، وهي أكاديمية وناقدة فنية ومديرة المدرسة العليا للفنون الجميلة بإكس أون بروفانس في فرنسا، عن مرايا الفن والانعكاسات المختلفة وما يمكن للإبداع الفني أن ينتجه من أبعاد معاكسة.وقاربت ساتر مداخلتها انطلاقا من خلفيتها كمؤرخة للفن ومشتغلة في مجال البيداغوجيا؛ فتطرقت إلى علاقة التقنية بالصورة، والكيفية التي يمكن بها للفنان هدم الأساطير لبناء سرديات وخيالات جديدة، تصير خلالها التقنية، أحيانا، موضوعا للأثر الفني.
الصورة والذكاء الاصطناعي
وقال جعفر عقيل، الأكاديمي والباحث في الفوتوغرافيا بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، إن الفوتوغرافيا، كما هي اليوم، تفرض علينا التفكير في مختلف التحولات التي عرفتها الصورة الفوتوغرافية، بشكل أثر في التمثلات والتخييلات والعلاقات التي يؤسسها الفوتوغرافي مع الواقع وفي المساحات والآفاق الإبداعية التي تفتحها أعماله أمام ناظره. ورأى أن الفوتوغرافيا عرفت في العشرية الثانية من القرن الجاري تحولا تمثل أساسا في توظيف مجموعة من الآليات والخوارزميات والتطبيقات، سواء قبل إنجاز الصورة أو خلاله أو بعده، الشيء الذي خلف مجموعة من ردود الأفعال المؤيدة أو الرافضة.
سحر التقنية
تحت عنوان “سحر التقنية وهالة الفن”، قال عبد الواحد آيت الزين، الأكاديمي، والباحث في الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس في الرباط، إن هناك شيئا ملتبسا في العنوان، وهذا الملتبس هو ما تترجمه، من وجهة نظره، أسئلة من قبيل كيف نربط السحر بالتقنية وهو الأقرب إلى الفن، وألم تكن التقنية وراء خبر نزع السحري عن العالم، خلافا للفن الذي رام دوما إيقافنا على سحر العالم.
وأضاف آيت الزين أننا عندما نلغي الجانب السحري والشعري والكشفي في التقنية الذي يشدها إلى الفن ويصلها به، فإنها تبدو بدورها أثرا فنيا، وعندما نختزلها في مجرد أدوات ووسائل وطرائق وأنظمة تخص الصنع والإنتاج، ينتصب الفن، في هذه الحالة، بوصفه مقابلا لها ومحكا حقيقيا لاختبار سحرها وإعجازها.
الحلم والآلة
وقدم ميكائيل فطري الداودي، الأكاديمي، ومنظم المعارض، ورقة بعنوان “أن نحلم مع الآلة.. الذكاء الاصطناعي في الفن”، تحدث فيها عن ممكنات الحلم مع الآلة، وكيف أن لهذا الحلم وجها آخر يطرح علينا ثلاثة تحديات، تتعلق بالامتلاء أو التشبع، والتوجيه، فضلا عن أشكال مختلفة من مراقبة الميولات