أطل القائد العام لإدارة العمليات العسكرية حينها، السيد الرئيس أحمد الشرع، في الرابع من كانون الأول على مدرج قلعة حلب، العاصمة الاقتصادية للبلاد التي تبسط فصائل الثورة السيطرة عليها بشكل كامل لأول مرة. حملت الزيارة إلى حلب بين سطورها رسائل متعددة، فعلى الصعيد العسكري، تعد الزيارة إعلاناً رسمياً لتحرير المدينة وإيذاناً بأفول حكم النظام البائد وبزوغ عهد جديد، في وقت كان إعلام النظام المخلوع وحلفاؤه يروجون لمساعيهم في استعادة السيطرة على حلب.
التأسيس لعهد جديد
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات عبد الوهاب عاصي أن زيارة الشرع إلى حلب حملت هدفين واضحين، الأول للتأكيد على مواصلة معركة ردع العدوان حتى إسقاط النظام. أما الهدف الثاني فكان من وجهة نظر عاصي الشروع في بناء هيكل حكم بديل يملأ الفراغ في حال تحقق ذلك السيناريو. ومع استمرار المعارك في وسط البلاد وعقب زيارة قلعة حلب، نشرت إدارة العمليات العسكرية بياناً توجه فيه برسالة إلى أهالي مدينة محردة بريف حماة يقول فيها: لقد أحسنا معاملة أبناء الديانة المسيحية في إدلب وحلب، وكذلك سنحرص على حمايتكم والحفاظ على ممتلكاتكم، فأدعوكم للاطمئنان وأطلب منكم رفض الحرب النفسية التي يمارسها النظام المجرم، فلا تنزحوا من بيوتكم وقراكم. ويؤكد عاصي أن حلب كانت مفتاح النصر لأنها جمعت قوات النظام فانهارت ثم أعيد تجميع ما تبقى منها في حماة، ومع القضاء على بقايا النظام هناك سقط النظام في دمشق سقوطاً نهائياً. ويرجّح عاصي أن الشرع أراد من ظهوره في قلعة حلب إشعاراً باقتراب السيطرة على كامل سوريا كما تفعل الجيوش تاريخياً في بلاد الشام. وبذلك أصبحت حلب ثاني مدينة تحت سيطرة دفاع العدوان، حيث دخلت القوات إلى أحيائها في اليوم الثالث من المعركة (29 تشرين الثاني 2024)، ثم أكملت سيطرتها في اليومين الرابع والخامس قبل أن تتجه نحو حماة وسط البلاد، حيث تدور معارك طاحنة.
إدارة مدنية
لم يعتمد الحكم الجديد عند ردع العدوان على القوة العسكرية والسياسية فحسب، بل ارتكز أيضاً على إدارة مدنية معدة سلفاً لتسيير شؤون المدينة التي يقطنها أكثر من مليوني نسمة، مع دعوات للموظفين للالتحاق بأعمالهم فوراً. ويذكر الباحث محمد زكوان كوكه أن إدارة العمليات العسكرية عملت إلى جانب التخطيط للمعركة على الاستعداد لتحديات حال تحرير حلب، فتكلفت حكومة الإنقاذ بتأمين الاحتياجات الملحة لسكان المدينة، وشهدت المدينة نشاطاً من المنظمات في جوانب عدة، منها توزيع الخبز، واستئناف تشغيل محطات المياه وتوليد الكهرباء وكذلك محطات الوقود. ويضيف كوكه أن المؤسسات الخدمية دخلت المدينة خلال ساعات قليلة عقب التحرير وبدأت بتنظيم إدارة الاحتياج وفق خطة طوارئ شاملة، فليس الإعداد لهذه الإدارة وليدة اللحظة بل كان جزءاً من الإعداد للمعركة. يذكر ابراهيم قيسون أن كوادراً من اختصاصات متعددة خُضعت للتدريب كي تكون مهيأة للدخول لاستلام زمام الأمور في حلب من بلديات ونظافة وأفران وشرطة، مع وجود أعداد كبيرة من الخريجين من دورات شرطية في إدلب ودرع الفرات، وهي مناطق صغيرة مقارنة بحجم المدينة. وفي مجال التعليم العالي، أشارت المصادر إلى أن جامعات إدلب والشمال المحرر خرجت عشرات الآلاف من التخصصات المختلفة، ما سهل دخولهم سوق العمل في ظروف قاسية وإسهامهم في إدارة المناطق المحررة حديثاً ضمن خطط الطوارئ.
أنموذج حي
لا تقف أهمية حلب عند كونها عقدة الممرات التجارية الدولية فقط، بل تعتبر أيضاً أقدم مدينة متعايشة بوجودها المتنوع قوميّاً ودينياً ومذهبياً، كما شكلت أثناء معركة ردع العدوان نموذجاً أولياً لما سيكون عليه شكل الإدارة في المحافظات الأخرى. ويرى كوكه أن إدارة العمليات العسكرية حولت رسائل التطمين للأهالي إلى خطوات عملية عبر زيارات للفعاليات المجتمعية والدينية، كما حلت الشرطة محل القوات العسكرية خلال أيام قليلة. وعلى الرغم من أن الإدارة المدنية واجهت تحديات خدمية في الأيام الأولى، اتخذت حكومة الإنقاذ فوراً قرارات وخطوات لتأمين المستلزمات الأساسية كالمحروقات للمخابز وتوفير الماء والكهرباء. ويؤكد قيسون أن تأمين الخبز كان من الأولويات المباشرة، خصوصاً بعد قطع النظام السابق مادة الطحين عن المدينة. كما رافق ذلك حملة مجتمعية من المناطق المحررة سابقاً باتجاه حلب ساهمت فيها المنظمات الأهلية بالتنسيق مع قيادة العمليات لتلبية احتياجات المدينة إلى حين انتهاء حالة الطوارئ. وتولت الإدارة الجديدة تشغيل محطات المياه واستئناف الضخ في باب النيرب وتشرين، وصيانة أعطال محطة سليمان الحلبّي، مع الإشارة إلى أن الخدمة ستعود تدريجياً إلى وضعها الطبيعي. ومن جانب الاتصالات، بدأت سيريا فون في إدلب بتركيب أبراج في مناطق حلب الجديدة والجميلية ومبنى الإذاعة. وتؤكد المصادر أن هذا المسار أرسى خارطة طريق أعادت مدينة حلب بتعدادها وتنوعها إلى نمط الحياة الطبيعية خلال أيام معدودة إلى حين استمرار معارك التحرير. كما لفت قيسون إلى أن العناصر العسكرية خضعت لدورات مكثفة في كيفية التعامل مع الناس من طوائف مختلفة والالتزام بالقوانين المحلية والدولية. وتبرز هذه الصورة أن الظهور الأول للقائد في قلعة حلب أرسى رسالة واضحة تفيد بأن الزمن الذي كان فيه حكم النظام قد انتهى، وأن ما بعد النصف الأخير من نوفمبر 2024 لم يعد كما قبله، وأن نموذج الإدارة الطارئة في حلب سيكون بمثابة blueprint لإدارة مدن كبرى في المستقبل.







