تهتم “الأكاديمية العليا للترجمة”، التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، بالتطورات التقنية التي تعرفها الترجمة اليوم، والتي “لا تقتصر على تحسين جودة النصوص المترجمة فحسب، بل تشمل أيضا تنظيم العملية برمتها وفق منهجيات دقيقة، تجمع بين الخبرة البشرية والتقنيات الحديثة”، ومستجدات “تحسين ترجمة النصوص” عبر “الذكاء الصناعي”، و”التحليل الآلي للمتون” لـ”تصحيح الأخطاء الشائعة وتعزيز دقة الترجمة”، وأثر كل هذا عبر “الإنسانيات الرقمية” في تطور الدراسات اللغوية والثقافية والتفاعل بين الثقافات.
وقال عبد الفتاح الحجمري، منسق الأكاديمية العليا للترجمة، إن موضوع الندوة، التي افتتحت مساء أمس الأربعاء، بعنوان “ترجمة المحتوى الرقمي: استراتيجيات وممارسات”، “موضوع بالغ الأهمية والراهنية”؛ لأن “شروط ممارسة الترجمة تتغير بتغير اللحظات الفكرية والسياقات التاريخية، بناء على الطلب الثقافي والأدوات التقنية المتاحة”.
وتحدث عن “تيارين رئيسَين في مجال الترجمة، ينادي أولهما باحترام النص الأصلي بشكل كامل، وأهمية الترجمة الحرفية التي لا بد من أن تبقى وفية له، ويرى الثاني أن القيمة الأساسَ تكمن في الأفكار والمضامين التي يتم نقلها”.
هذا التباين، “ما زال قائما في أعمال الترجمة إلى اليوم”، وفق الحجمري، “رغم تحولات الثقافة بفعل الوسائل الرقمية، والتغييرات عبر الأفكار والنصوص عن طريق الترجمة”.
وللترجمة، يورد المتحدث، “أبعاد متعددة ووظائف شتى، فهي (…) في قلب عملية معقدة، تتداخل فيها إرادات متعددة، وشبكة متنوعة، وتأثيرات ثقافية وذاتية متنوعة، وممارسات ترجمية عرفت طابعا معينا، وتعقيد وغنى أكبر بفعل التقنيات، من بينها الترجمة متعددة الألسن، وتوسيع العمل عبر المنصات والخوارزميات المتنوعة”، علما أن “الترجمة في العصر الرقمي تقتضي إعادة نظر في شتى توجهاتها”، و”الترجمة الآلية” توجد “في قلب التواصل الكوني”.
وتوقف منسق الأكاديمية العليا للترجمة عند “التكنولوجيا” التي “تعيد تعريف ممارسة الترجمة”، بل وتُغيّر “مهنة المترجِم”، بتقدم يطرح تحديات القيمة، والتمايزات، والسرعة والدقة، والتوليف بين التكنولوجيا والدراية الإنسانية بكيفية العمل، مما يقتضي النقاش الأكاديمي، عبر عروض متعددة تستمر اليوم الخميس، “للتشارك، والتعلم، والابتكار، وفتح مجال لآفاق أخرى”.
غيوم فيسنوفسكي، أستاذ بجامعة باريس سيتي الفرنسية، كشف من جهته في مداخلته الافتتاحية كيفية عمل برمجيات “الترجمة الآلية” والثورة الجديدة للترجمة عبر “شات جي بي تي”، عن طريق التعلّم الذاتي للذكاء الاصطناعي.
وقال: “منظومات الترجمة الآلية موجودة اليوم، مثل غوغل ترانسليت، كانت تجمع بيانات هائلة بلغة وتترجمها إلى لغة أخرى، وتتعلم إعادة إنتاج الترجمة، وكانت في حاجة إلى بيانات هائلة لتتصفحها، وكانت مضبوطة بالبيانات، فإذا تعلمت من نص حول كرة القدم، ستترجم مواضيع حول كرة السلة بشكل أقل دقة”.
لكن، كل هذا تغير مع النموذج الحسابي القادر على توليد اللغة، المعروف بـ “LLM” وهو الكامن وراء ثورة “شات جي بي تي”، بمكونات، هي: مقابلة كل حرف بالأرقام، بمنح النموذج تمثيلات له مبنية على تعلم البيانات؛ فليصل مثلا إلى فهم وترجمة “ملكة”، يقوم بعملية، هي: “ملك ناقص رجل، زائد امرأة، يساوي ملكة”.
بعد ذلك “تعلم النموذج كيف تحوَّل هذه التمثيلات، وتضاعف” بتمثيلات متعددة تشمل النصوص والصور والأصوات وغيرها، في “هندسة لتمثيلات جديدة، تجمع التمثلات المتغيرة بعد تعلمها”.
يلي ذلك الإشرافُ الذاتي على عمليات تطّور قدرات البحث عن “الكلمات المنقوصة في نص من النصوص”، والبحث بدقة عن الكلمات المحجوبة”، في طريقة “تعلّم تصاعدي”، عبر الخطأ والتصحيح “مليون ومليار مرة”، يستطيع معها “تعلم العلاقة بين الكلمات” بدقة عالية.
ومن بين ما تطرق إليه المتدخل “حجم وقدرة التعلم لدى نماذج أجيال “شات جي بي تي” التي تتطوّر، رغم أنها لم تبرمج يوما، مثلا، على أن تضيفَ مقابِلات أرقام تُجمع وتُطرح، بل تعلّمها بلعب لعبة “احزر الكلمة القادمة”.
أمر ثان لم يُعلّمه وتعلّمه هو “تبادل ومشاركة المعارف اللغوية بين اللغات، حتى ولو لم نعرف لماذا؟ وكيف؟ فقد تتبع “شات جي بي تي” نماذج اللغة، التي يمكنها الاكتشاف التلقائي للتراسلات بين اللغات، والعمليات المنطقية”، بترجمة تلقائية، غير قابلة للتوجيه، وليست رسمية، في مكونات للترجمة “لم تكن متوقعة، وستشكل بشكل جوهري عمل المترجمين”.
عز الدين مزروعي، أستاذ بجامعة محمد الأول بوجدة، تطرق من جهته إلى عمل مشترك حول “تحديات خاصة بالترجمة الآلية للغة العربية، وأخرى مشتركة للعربية مع لغات أخرى”، بنماذج تقنية تفسّر خصوصيات الترجمة الرقمية إلى اللغة العربية ومنها، والصعوبات التي تواجهها وكيفية مواجهتها.
من بين هذه التحديات كلمات غياب حركات التحريك أو الشكل، غير الحاضرة في اللغات اللاتينية والجرمانية، “مما يزيد الغموض”، في الترجمة مثلا والاستيعاب الرقمي معنى “فَهُم المشكلة”، و”فهِمَ المشكلة”، و”فَهْمُ المشكلة”؛ لأن الترجمة الآلية “تعالج نصا ليس مكتملا، دون شكل، مما يصعب حياة الناس والآلات أكثر”، وهو ما يبدو من مثال آخر هو “فَرمَتِ اللحم” الذي يمكن أن يعني أنها “فرمتِ اللحم فرما”، أو “رمَت اللحم”.
ومن الخصوصيات أيضا التي أُخذت بعين الاعتبار، ترجمة كلمة عربية واحدة أحيانا تتطلب جملة في لغة أجنبية مثل الإنجليزية، و”المرجعيات الثقافية التي تصعب ترجمتها”، وإشكال يواجه تنمية أي نظام، يعرف قدرا محدودا من المفردات، فيُدرك مثلا 50 ألف كلمة عربية من أصل ملايين المفردات باللغة العربية.
وقدّم العرض نماذج تقنية خاصة مقترحة تهم كل لغة، في علاقتها بالترجمة الآلية بشكل أدق يأخذ خصوصيات حجم مفرداتها، وغناها من عدمه