بدأت الإدارة السياسية الجديدة في سوريا بإعادة صياغة مشروع الدولة، مما أظهر أن هناك ملفات ثقيلة تتطلب اتخاذ قرارات حاسمة على طاولة الحوار. يتصدر قائمة تلك الملفات ملف تنظيم الإخوان، الذي لطالما كان في الذاكرة السورية عنوانًا للصراع. شكّل هذا التنظيم أداة للتدخلات الإقليمية والدولية، ورمزًا لتحدي الدولة الوطنية من خلال أيديولوجيات تتخطى الحدود.
تتصاعد الأصوات المطالبة بحل التنظيم أو حظره بشكل كامل، وتبرز تساؤلات مهمة حول اتجاه دمشق الجديدة، هل ستتخذ قرارًا بالقطع النهائي مع الإخوان، أم ستسمح بوجودهم ضمن إطار محدود؟ وهل يوافق الإخوان أنفسهم على هذا الخيار أم يفضلون المناورة والازدواجية التنظيمية التي اعتادوا عليها لعقود؟
دعوة موفق زيدان: الحل لبناء الدولة
أحدث الدعوات علنًا جاءت من موفق زيدان، المستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي طالب بشكل واضح بحل تنظيم الإخوان، على غرار الفصائل العسكرية والسياسية التي تم حلها خلال المرحلة الانتقالية. اعتبر زيدان أن هذه الخطوة ليست مجرد تصفية حسابات سياسية، بل خيار استراتيجي يصب في مصلحة بناء الدولة السورية الجديدة، التي تسعى للانطلاق بعيدًا عن الكيانات التي تشكل تهديدًا لوحدتها واستقرارها.
رسالة زيدان تتجاوز الجانب الإجرائي إلى المعنى الرمزي والسياسي، فالدولة الناشئة لا يمكن أن تترك كيانًا يحمل مشروعًا موازيًا لها، خاصة أن تجارب دول أخرى مع الإخوان انتهت دائمًا بصدام أو مواجهات عنيفة.
الإخوان كتنظيم موازٍ ودوره في سوريا
يؤكد خبير الجماعات المتشددة أحمد بان أن أصل المشكلة مع الإخوان يكمن في بنيتهم التي تعتبر تنظيمًا موازياً للدولة، ينازع أدوارها. ويحكي عن نقاش منذ عقد مع دبلوماسيين أتراك، حيث قالوا إنهم يعادون حركة فتح الله غولن لأنها كيان موازٍ للدولة. رد عليهم بان أن مصر ترى أن الإخوان تنظيم موازٍ أيضًا، وهو ما يجسد أن أي دولة محترمة لا تقبل بوجود ازدواجية في السلطة. ويضيف بان أن كل محاولة للجمع بين الدعوة والسياسة، وبين الدين والدولة، انتهت دائمًا بفشل.
وصف بان الإخوان بأنهم أصبحوا كديناصور غير قادر على التكيف مع الواقع، بعدما حُيّدوا وابتعدوا عن التغيرات في البنى الفكرية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا منذ خمسة عقود. ما أدى إلى أنهم يشكلون خطرًا مزدوجًا، على الدولة الجديدة وفكرة التعددية، إذ يرفضون المشاركة إلا من منطلق الهيمنة التنظيمية.
تحليل الوضع السياسي والتنظيمي
تُرسل دمشق رسائل مزدوجة لإخوان سوريا، من خلال تعيين شخص ذو خلفية إخوانية كمفتي للدولة، ما يشير إلى السماح بدور دعوي محدود للجماعة، لكن في ذات الوقت، تكشف عن رفض واضح لوجود تنظيم سياسي أو كيان موازٍ. إلا أن الإخوان لم يلتقطوا هذه الرسائل، بل تمسكوا بفكرة التنظيم كـ«خط أحمر»، مما يعكس مسار تصادمي مع الدولة، التي تمكنت حتى الآن من تفكيك بنيات موازية أخرى.
تُعتبر تجارب مصر والسودان أبرز الأمثلة على ذلك. ففي مصر، عندما تولى الإخوان الحكم عام 2012، لم يحل التنظيم، بل أبقاه كجهاز يمارس وصاية على الدولة، مما أدى إلى سقوطهم أمام الدولة والمجتمع. أما في السودان، فقد أدت هيمنتهم على مؤسسات الحكم إلى تدهور الأوضاع وفقدان شرعية الدولة بشكل تدريجي.
نماذج للنجاح في التحول السياسي
هناك نماذج أخرى يمكن أن تُعتمد، كتركيا والمغرب، حيث نجحت حركات إسلامية ذات جذور دينية إلى تحويل نفسها إلى أحزاب سياسية وطنية، متآلفة مع الدولة. في تركيا، قاد حزب العدالة والتنمية تجربة استمرت أكثر من عقدين، وفي المغرب، تحولت حركة التوحيد والإصلاح إلى فاعل سياسي طبيعي داخل النظام. يعتقد بان أن هذه النماذج تمثل حلولًا عملية لمن يرغب من الإخوان في البقاء، إذا تخلوا عن بنيتهم القديمة.
سقوط سردية المظلومية وتحدي الهوية
اعتمد الإخوان على خطاب المظلومية لجذب التأييد الشعبي، لكن التجارب في مصر والسودان كشفت أن وعودهم لم تكن سوى شعارات، وأنهم قد أكملوا دورة حياتهم وأصبحوا في نهايتها. بالتالي، لم يعد الصراع بين الدولة السورية والإخوان مجرد خلاف سياسي، بل تحول إلى معركة على البقاء، بحيث أصبحت الدولة في مرحلة تشكل، والتنظيم في حالة انقراض.
الخيارات أمام دمشق والمخاطر المحتملة
تواجه دمشق خيارات محدودة بين الحظر الكامل للإخوان أو ممارسة سياسة المناورة والتنظيم السري. الخيار الأول يتوافق مع مسار الدولة التي لا تسمح بوجود كيانات موازية، لكن الإخوان لن يحلوا أنفسهم بشكل طوعي، ويعد فرض الحظر عليهم سببًا لعودة العمل السري، مما يعقد المواجهة ويطول أمدها. إذن، الانتقال من المواجهة العلنية إلى السرية قد يكون السيناريو الأرجح، ويشكل تحديًا طويل الأمد أمام الدولة.
خاتمة ومعركة المصير
ينطوي الصراع حول الإخوان في سوريا على نزاع أوسع يمتد إلى مستقبل الإسلام السياسي، حيث يواجه التنظيم اليوم مشروع الدولة الجديدة، التي تسعى لحماية هويتها الوطنية. في حين أن تجارب مصر والسودان أظهرت عجز الإخوان عن أن يصبحوا قوة وطنية متماسكة، أثبتت تركيا والمغرب أن التحول ممكن بشرط تخلّي الجماعة عن بنيتها التقليدية. بينما تصر دمشق على المضي قدمًا في مشروعها دون السماح بوجود كيان موازٍ، يظل الصراع بين الطرفين قائمًا، والعواقب قد تكون حاسمة، إما بانتهاء التنظيم بشكل نهائي أو بتحصيل مواجهة سرية تطول وتؤثر على استقرار المنطقة.







