تشهد أوروبا موجة غير مسبوقة من الإنفاق العسكري مع تصاعد الحرب في أوكرانيا وتزايد التوتر مع روسيا.
وتتوقع الوكالة الدفاعية التابعة للاتحاد الأوروبي أن يصل الإنفاق العسكري الأوروبي إلى 381 مليار يورو بحلول عام 2025، وهو رقم قياسي يعكس القلق من التهديد الروسي وضغط الحلفاء الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
هذه الزيادة، التي بلغت نحو 10% خلال عام واحد، تعكس التزاماً أوروبياً متجدداً تجاه الناتو في ظل ضغوط من واشنطن لرفع مساهمات الدول الأعضاء في الدفاع.
خلافات أوروبية حول فلسفة التسلّح
يؤكد الباحث مصطفى طوسة أن المسألة ليست محط إجماع داخل الاتحاد الأوروبي، فبينما تتصدر دول مثل ألمانيا وفرنسا صفوف الداعمين لزيادة الإنفاق العسكري، تتردد دول أخرى مثل إسبانيا في ضخ المزيد من الأموال.
ويشير طوسة إلى أن هذا النقاش يعود لما قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ واجهت أوروبا ضغوط أميركية مستمرة للوفاء بالتزاماتها الدفاعية ضمن إطار الناتو، مع شعار بأن الأوروبيين يجب أن يمولوا أمنهم بأنفسهم بدلاً من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة.
المال لا يكفي وحده
رغم الأرقام الضخمة، يؤكد طوسة أن المال وحده لا يصنع سياسة دفاعية مشتركة. يتطلب الأوروبيون استراتيجية عسكرية واضحة وتوافقاً سياسياً حول طبيعة المخاطر وكيفية مواجهتها، إضافة إلى إرادة موحدة لتوحيد العقيدة الدفاعية.
ويبرز هنا الخلاف بين فرنسا التي تدعو للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية وبين ألمانيا التي تفضل البقاء ضمن مظلة الأطلسي وتعزيز ارتباطها الوثيق بالبيت الأبيض، وهو تباين يعطل حتى الآن أي مشروع جيش أوروبي موحد.
الإنفاق تحت ضغط أميركي
يرى طوسة أن رفع الميزانيات الدفاعية الأوروبية لا يرتبط حصراً بالحرب الروسية الأوكرانية، بل هو استحقاق فرضه الأميركيون عبر الناتو. ففي اجتماعات الحلف الأخيرة، فُرض على الدول الأعضاء رفع مساهماتها الدفاعية إلى نحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030.
ويعتقد أن الأمر يتجاوز مجرد الدفاع الذاتي، إذ يشمل بعداً اقتصادياً يضمن استمرار تدفق صفقات شراء الأسلحة من الولايات المتحدة وتطوير الصناعات الحربية داخل أوروبا، إضافة إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن.
هواجس المواجهة المستقبلية مع روسيا
حتى لو توقفت الحرب بين موسكو وكييف غداً، يرى طوسة أن الهواجس الأوروبية لن تزول. فمراكز القرار الأمني والعسكري تعتبر أن المواجهة مع روسيا محتملة في المستقبل ما يبرر استمرار ارتفاع ميزانيات الدفاع وتطوير الصناعات الحربية داخل القارة، إضافة إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن.
عودة الخدمة العسكرية إلى الواجهة
أحد أبرز المؤشرات على هذا التحول هو عودة النقاش حول التجنيد الإجباري، ففي فرنسا التي ألغت هذه الخدمة في التسعينيات ترتفع أصوات تطالب بإعادتها لتأمين موارد بشرية للجيوش ولإحداث انعكاسات اجتماعية وتربوية على الشباب.
كما أطلقت وزارات الدفاع في عدة دول أوروبية حملات دعائية لاستقطاب الشباب نحو الانخراط في القوات المسلحة، ما يعكس نقص العنصر البشري وارتفاع الحاجة إلى دماء جديدة في الجيوش.
الهوة بين الشارع وصناع القرار
رغم هذه التحركات، لا يعيش الرأي العام الأوروبي تحت تهديد “الخطر الروسي” كما يراه صناع القرار. فالإعلام الأوروبي لا يبالغ في التهويل، لكن مراكز الأبحاث تجهّز سيناريوهات مواجهة قد تكون آجلة وليست عاجلة.
إلى أين يتجه الاتحاد الأوروبي؟
بين الاستجابة للضغوط الأميركية وبين الخلاف الداخلي بين تيار الاستقلالية الفرنسية وارتباط ألمانيا بالناتو، يجد الاتحاد نفسه أمام معضلة استراتيجية: هل يكتفي بتعزيز الإنفاق والبقاء تحت جناح الناتو، أم يسعى لسياسة دفاعية مستقلة تعكس وحدة القرار الأوروبي؟ لا توجد إجابة واضحة، لكن المؤكّد أن ميزانية الدفاع ستواصل الارتفاع، وأن أوروبا تدخل مرحلة مفصلية قد تعيد رسم معادلات أمنها لعقود قادمة.







