أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب من شرم الشيخ عن “يوم عظيم للشرق الأوسط”، مؤكدًا أن وثيقة وقف الحرب في غزة “شاملة وتحتوي على جميع القواعد واللوائح الخاصة بتطبيق الاتفاق”.
لكن خلف هذا الإعلان المفعم بالرمزية، تتكشف ملامح واقع أكثر تعقيدا، تتصارع فيه الطموحات الأميركية والشكوك الإسرائيلية والحسابات العربية الدقيقة، في لحظة تبدو فيها المنطقة كمن يسير فوق رمال سلام متحركة.
بين الخطاب والواقع.. إرث ترامب وطموح الزعامة
يرى مدير عام سكاي نيوز عربية، نديم قطيش، أن ترامب تعامل مع القمة كمنصة لإرساء إرث شخصي قبل أن تكون مبادرة للسلام. فهو يتحدث من منظور نفسه، ويرى كيف سيُسجله التاريخ، حتى أن حفيدته سألته عمّا يريد تحقيقه ففتح لها بأنه يريد أن يكون “أعظم رئيس”، فصار هذا منطق نظرته إلى العالم: ليس الشرق الأوسط أولوية، بل صورة ترامب في الذاكرة العالمية.
يشدد قطيش على أن القمة تاريخية بمعنى وقف الحرب، لكنها ليست بداية سلام حقيقي؛ الطريق ما زال بعيدًا، ربما يستغرق عشرين عامًا. ومع ذلك يحمل المشهد مؤشرين: أولاً تراجع دور الميليشيات التي كانت تجلس إلى طاولات القرار، فغياب حماس وحزب الله عن الصورة يعكس تحولاً عميقًا في بنية الإقليم. ثانيًا غياب “النصاب القيادي”، فغياب أسماء كبيرة مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإماراتي محمد بن زايد جعل الحدث بلا تغطية من الصف الأول وكأن العواصم الكبرى تراقب من بعيد أكثر مما ترهن على نجاح الاتفاق.
اتفاق بلا آليات.. وتحذير من “سلام ناقص”
أما المحلل السياسي في سكاي نيوز عربية عماد الدين أديب فكان أكثر حذرًا في توصيف ما جرى. برأيه، ما حصل ليس اتفاق سلام بل وقف إطلاق نار يحمل منافع إنسانية محدودة، وهو ليس سلامًا بل هدنة مؤقتة تتيح دخول المساعدات وتجميد مشروع التهجير مؤقتًا، كما أن الوثيقة تفتقر إلى آلية تنفيذ وسقف زمني واضح وجدول انسحابات مما يجعلها أقرب إلى إعلان نوايا لا أكثر.
يفسر أديب الأسباب بأنها إسرائيل لا تريد أربعة أمور أساسية: أن يكون الاتفاق دوليًا عبر الأمم المتحدة، أو أن يتضمّن سقفًا زمنيًا محددًا، أو أن يُلزمها بانسحابات مدروسة، أو أن يعترف بأي كيان فلسطيني — حماس أو السلطة. لذا يصفها بأنها “صفقة على طريقة ترامب”، أي صفقة تجارية بلا عمق سياسي أو فهم لتاريخ المنطقة.
ويمتد أديب في رأيه ليقول إن أكبر خطأ القمة كان منح ترامب الضوء الأخضر لبقاء حماس في إدارة غزة خلال الفترة الانتقالية، فغالبًا ما يعود الشرخ إلى الشرعية التي يعطيها وجودها في المشهد، لأنها حركة استخدمت السلاح ولها ولاءات مرتبطة بطهران، وكان من المفترض أن تكون هذه القمة نهاية دورها لا بدايته الجديدة.
عرض ترامب أكثر من مضمون الاتفاق
يرى موفق حرب، محلل الشؤون الأميركية في سكاي نيوز عربية، أن القمة في شرم الشيخ كانت عرضًا لترامب أكثر مما كانت محطة سياسية مكتملة. يقارنها بمدريد ويؤكد الفرق الكبير: مدريد أطلقت عملية سلام طويلة برعاية متعددة، بينما شرم الشيخ لم تطلق شيئًا سوى صورة جماعية. حتى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي استضاف القمة ترك المكان لترامب ليقدم عرضه كاملاً. وتفصيل رمزي سِرّي لاحظ حربه في أن ترامب كان بلا سماعة ترجمة حين قال ما يخص حل الدولتين، ما يعكس مسافة بين الحديث عن “يوم عظيم” وواقع لا يتغير.
يرى حرب أن ترامب يتلذذ بقيادة الصورة أكثر من قيادة السلام، فهو “ذاق طعم القيادة العالمية” بعد القمة واستمتع بوقوف القادة خلفه، لكن مضمون الاتفاق ظلّ هشًا. كما بدا حديثه عن “منع الحروب في المستقبل” متناقضًا عندما شدد على أنه “لا يكره الحروب، لكنها أحيانًا ضرورية لمنع حروب أكبر”، وهو تعبير يعكس التباين بين الخطاب المثالي والرؤية الواقعية للسلطة الأميركية.
سلام على طريقة المسدّس الأميركي
المفارقة الساخرة جاءت على لسان نضال كناعنة، محرر الشؤون الإسرائيلية في سكاي نيوز عربية، حين رأى في غياب نتنياهو عن القمة رمزًا لفقدان الرؤية داخل إسرائيل، وقال ساخراً: “شمعون بيرس قال يومًا: إذا لم تكن حول المائدة، فأنت على المائدة. ونتنياهو اختار الغياب فصار العشاء نفسه.” فإسرائيل، وفقه، انسحبت من القطاع في ظل فراغ، وتجد نفسها أمام واقع جديد: حماس تحت الأرض ثم فوقها، ولا سلطة بديلة قائمة.
يصف كناعنة ترامب بأنه “صانع سلام على طريقة المسدس الأميركي” في إشارة إلى تثبيت الوضع القائم بدلاً من تغييره. فهو يمنح شرعية للواقع: انسحاب إسرائيلي غير مكتمل، غياب سلطة فلسطينية فاعلة، وحماس في موقع من يملأ الفراغ. باختصار، المشهد يختصر تثبيتًا لما هو موجود بلا تغيير حقيقي.
ما وراء الصورة.. النظام الإقليمي الجديد
رغم اختلاف القراءات، يلتقي المحللون على أن شرم الشيخ لم تكن تتويجًا لسلام بل بداية لإعادة تركيب المنطقة. غياب الميليشيات عن المشهد وتقدم الدول في مواقع التفاوض يعكسان تحولا عميقًا في مفهوم “الفاعلين في الشرق الأوسط” من حركات عقائدية إلى دول تبحث عن استقرار واقعي.
لكن هذا التحول لا يعني أن طريق السلام بات معبدًا؛ فالمعادلة الجديدة تقوم على توازن هش بين إنهاء الحرب وغياب حل سياسي. قد يكون ترامب قد نجح في تثبيت الهدنة، لكنه لم يقدم إجابة عن اليوم التالي لغزة، وحتى عن شكل الكيان الفلسطيني المقبل أو عن دور عربي فعال في تطبيق أي اتفاق. الصورة الجديدة تفرض واقعية وتطلبات لخطوات عملية قد تحدد شكل النظام الإقليمي في الفترة المقبلة.
قمة بلا ختام واضح
انتهت قمة شرم الشيخ بعناوين كبيرة وصور جماعية، لكنها بلا أجوبة حاسمة. تحمل الوثيقة لغة سلام فضفاضة وبلا آليات واضحة، بلا ضمانات، بلا جداول زمنية، وبلا آلية تنفيذ تقي من أن تتحول إلى بيانٍ آخر على جدار التاريخ. من شرم الشيخ إلى غزة تتباعد المسافات بين “وقف الحرب” و”صنع السلام”، وربما حقق ترامب هدفه في التزاحم على المشهد والظهور كزعيم، لكن المنطقة ما زالت تبحث عن مشهدها الخاص؛ مشهد لا تحدده الكاميرات بل ما يحدث فعليًا على الأرض.
دونالد ترامب وقمة شرم الشيخ وحزمة “اتفاق غزة” تحولت إلى مشهد يعكس صراعات القوة والرهانات الكبرى، فالعَظَم لا ينطلق من الصور وإنما من القدرة على تغيير الواقع وتحديد مستقبل الفلسطينيين والشرق الأوسط كله.